مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الحوار خُلقٌ قرآنيّ

الشيخ محمّد زراقط
 

إنّ أصل كلمة حوار في اللغة العربيّة هو الحروف الثلاثة "ح- و- ر"، والتي لها معانٍ متعدّدة، بعضها على الأقلّ يفيد، بحسب الأصل، معنى الرجوع والعود من جهة إلى جهة أخرى. "وكذلك تُستعمل في مقام ردّ اعتراض المتكلّم وإرجاع منطقه وبيانه عن مسيره عليه، بإبطال حجّته، ونقض استدلاله، وردّ النفوذ والجريان في كلامه..."(1). 

ثمّ ما لبث أن تحوّل الحوار إلى "قيمة أخلاقيّة" في مجالات عدّة، مثل: التربية والعلاقات الأسريّة، أو في التعليم، أو العلاقة بين السلطة والشعب، أو بين الأحزاب السياسيّة، أو بين العمّال وأرباب العمل. ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ الحوار حتّى في هذه المجالات، يبقى أسلوباً لتبادل المعلومات، ومجالاً لتعبير كلّ طرف عمّا يريد، سواء كان هدفه مجرّد عرض وجهة نظره وبيان أفكاره وآرائه للطرف الآخر، أو الانتصار لرأيه وإظهار الخلل في وجهة نظر الطرف الآخر. فما يتغيّر ويتبدّل هو الغاية من الحوار، والهدف المقصود من تبادل المعلومات، ونقلها من طرف إلى آخر. 

من هنا، ما هي أخلاقيّات الحوار؟ وما هي قيوده والغاية منه؟

•الحوار في القرآن الكريم
1- صيغة الحوار:

وردت كلمة (حوار) في القرآن الكريم ثلاث مرّات على الأقلّ، مرّتين بصيغة "يحاوره" في حوار دار بين شخصين أحدهما مؤمن والآخر غير مؤمن، حيث يقول الأخير لصاحبه المؤمن: ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ (الكهف: 34). ويتابع هذا الرجل بيان عدم اعتقاده بالآخرة، وأنّه يميل إلى الاعتقاد بأنّ أملاكه لن تبيد(2)، فيقول له المؤمن: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ (الكهف: 37)، ويتابع محاولاً إقناع صاحبه وبيان خطإ حساباته(3). 

ثمّ استُعملت الكلمة بصيغة "تَحاوركُما" في قصّة المرأة التي أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشتكي زوجها الذي أقسم على زوجته أنّها كأمّه، بحيث لا تبقى زوجةً له، ولا تكون طالقاً منه حتّى تتزوّج غيره، وهو ما يُعرف في الفقه الإسلاميّ بـ"الظهار". قال تعالى: ﴿وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (المجادلة: 1).

2- صيغ أخرى للحوار:

لا يقتصر المعجم القرآنيّ في بيان الحوار على هذه المفردة؛ بل وردت كلمات أخرى ومن ذلك: الجدال(4)، والموعظة(5)، والأمر بالقول. وهذه الصيغة الأخيرة وردت مرّات عدّة في القرآن الكريم، حيث أمر الله نبيّه أن يقول للآخرين هذا أو ذاك. 

ولم يقتصر الحوار بصيغة "القول" على تبادل المعلومات والاطّلاعات بين البشر، بل إنّ الله تعالى شأنه كان طرفاً في الحوار مع عدد من مخلوقاته، ومن ذلك حواره مع الملائكة عندما أخبرهم أنّه جاعلٌ في الأرض خليفة، إلى آخر القصّة المعروفة(6). 

•القرآن: دعوةُ حوار
ومن السمات الغالبة في القرآن الكريم، خصوصاً في ميدان الاعتقاد، هو الحوار وطرح الأسئلة على المخاطب؛ ليعود إلى نفسه فيستخرج الجواب المتعلّق بسؤالٍ عن التوحيد أو غيره من المفاهيم الدينيّة الأساسيّة: ﴿أفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ*أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ*نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ﴾ (القمر: 71-73). 

وفي ضوء هذه الإشارات السريعة، وتحديداً بالنظر إلى قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، يمكن القول إنّ القرآن دعوة حوار تهدف إلى بيان الحقّ للناس، وتدعوهم إلى قبوله. 

ولا يكتفي القرآن الكريم بالدعوة إلى الحوار أو ممارسته؛ بل يبيّن بعض أخلاقياته والأرضيّة التي ينبغي أن يقف عليها المتحاوران، والغاية التي ينبغي أن يصلا إليها بعد الحوار، وذلك في آيات أخرى، ربّما نشير إليها لاحقاً.

•أخلاقيّات الحوار في القرآن
الحوار بحسب القرآن الكريم هو وسيلة مناسبة لتبادل المعلومات، ونقل الخبرات والتجارب من طرفٍ إلى طرفٍ آخر، سواء كان ذلك مع المساواة بين الطرفين في المنزلة أو المقام، أو مع الاختلاف بينهما. وليس الحوار غايةً أو هدفاً في حدّ ذاته. ولمّا كان الحوار وسيلة، فقد وضع الله تعالى له ضوابط وقيوداً، وافترض له غاياتٍ وأهدافًا، وحدّد له أطرافاً. وفي ما يأتي، سوف نعرض تباعاً لهذه العناصر المتنوّعة التي تحيط بالحوار، وتجعل منه حواراً مجدياً ومفيداً.

1- بالّتي هي أحسن
لعلّ أجمل تعبير عن الأسلوب الواجب اتّباعه في الحوار مع من نختلف معهم في الدين أو في غيره من الأمور الفكريّة أو الحياتيّة، هو دعوة القرآن إلى مناقشة المختلفين مع الإنسان في الدين بالتي هي أحسن، وذلك في أكثر من آية من الكتاب العزيز، كما في قوله تعالى:  ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (العنكبوت: 46). وعبارة "بالتي هي أحسن" عامّة شاملة تلزم المسلمين بمراعاة جميع الآداب والأخلاقيّات الإسلاميّة في مجال التعامل مع الآخر المختلف دينيّاً. وفي السياق نفسه، يقع قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125). وهذه الآية وردت أيضاً في سياق الكلام على اليهود والعلاقة معهم. والأرضيّة الأخلاقيّة التي يجب أن يقف عليها المتحاورون هي أرضيّة العلم، فلا يحقّ للإنسان أن يحاور أو يجادل في أمر لا علم له به ولا خبرة له به: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ (الإسراء: 36). 

وأخيراً، نشير إلى أنّ الله، على الرغم من إدانته الشرك وعبادة الأوثان بأشكالها كافّة، فإنّه نهى عن سبّ آلهة الذين كفروا بقوله: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108).

2- بيان الحقّ وهداية الآخر
الحوار، الذي هو أسلوب يجب اعتماده في التعاطي مع الآخر المخالف أو المؤالف، هو كأيّ وسيلةٍ أخرى، ينبغي أن لا يتحوّل إلى غاية في حدّ ذاته. ومن هنا، نجد أنّ الله عزّ وجلّ جعل له غاية ينبغي أن ينتهي إليها. وهذه الغاية بحسب عدد من الآيات: بيان الحقّ وهداية الطرف الآخر إليه، فإذا قبل فبها ونعمت، وإذا لم يقبل الحقّ، وظلّ مصرّاً على ما هو عليه، فلا معنى لاستمرار الحوار معه. يقول الله تعالى مديناً أولئك الذين يصرّون على المجادلة والحوار، حتّى بعد أن تبيّن الحقّ: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ (الأنفال: 6). فالقرآن يعرض خيارات عدّة تختلف باختلاف الحالات والأشخاص المحاورين؛ أحدهما مع المعاندين وهو قطع الحوار وإعلان المفاصلة، كما في قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6)، وفي آيات أخرى يأمر بالإعراض عنهم(7). والخيار الثاني هو ترك الحساب وتأجيله إلى يوم القيامة، كما في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 108).

•متى لا نحاور؟
بالرجوع إلى القرآن الكريم، نجد أنّ الله تعالى لم يقيّد الحوار بأطراف بأعيانهم، بل حاور عدداً من مخلوقاته بأشكال مختلفة، ولم يمتنع عن محاورة شرّ خلقه وهو إبليس، ولم ينهَ أنبياءه عليهم السلام عن محاورة أحد بعينه لكفره أو لمخالفته دعوة هؤلاء الأنبياء، أو لشكّه في أمرٍ أساس من أمور العقيدة والدين. فباب الحوار مفتوح على مصاريعه كافّة، ما دام مقيّداً بما تقدّم من قيود. 

ومن الشروط والقيود التي فرضها الله على بعض أشكال الحوار، أنّه لم يسمح بالدخول في حوار يهدف إلى تحقيق أغراض غير شريفة بعنوان الحوار، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ (النساء: 140). والقاعدة العامّة التي يمكن استنباطها من هذه الآية للحوار، هي أنّه في بعض الحالات، قد يتحوّل إلى ذريعة يستعين بها الظالم على ظلمه، كما في حالة العدوّ الإسرائيليّ؛ فإنّ الحوار معه يفترض مسبّقاً الاعتراف به، وإضفاء مشروعيّة على احتلاله وعدوانه، مع اليأس من الوصول إلى نتيجة من الحوار؛ لأنّ الوصول إلى نتيجة من الحوار هو اعترافه وتنازله عمّا يدّعيه من حقٍّ وجوديّ، ومثل هذا الاعتراف صعب المنال من عدوٍّ كهذا. 

وهكذا، وضع الله تعالى للإنسان ضوابط وقيوداً تجعل الحوار دعوةً إلى حقّ وسبيل تغيير، وحجّةً على طرف مستمع.
 

1.التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن مصطفوي، ج 2، ص 359-360.
2.انظر: سورة الكهف، الآيات 33-36.
3.سورة الكهف، الآية 37 وبضع آيات بعدها. 
4.﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).
5.﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ (لقمان: 13).
6.سورة البقرة: الآية 30 وما بعدها.
7.كما في قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾ (السجدة: 30).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع