السيد علي محمد جواد فضل اللَّه
يمثل الإسلام حقيقة مطلقة لا يعتريها باطل ولا يشوبها وهن، وطالما أن حوارنا جدلية حق وباطل، فإنه وإن تنازلنا فرضاً عن هذه الأحقية وذلك لما تقتضيه روحية الحوار وفاقاً للقاعدة الحوارية التي أطلقها القرآن الكريم ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (سبأ: 24)، وفي المقابل تنازل الآخر عما يؤمن به كذلك، نزولاً عند مقتضيات الجدل والحوار، فإن هذا التنازل لا يضير بصدقية الحوار طالما أن شروطه ومحفزاته مؤمنة ومتوافرة، إذ إن ثبات الحقيقة عندك لا بد إن توفرت الموضوعية المطلوبة من الآخر أن تنجلي عنها معطيات الحوار، وتنقشع عنها تدريجيَّاً ضبابية الباطل وسرابيته، لأن الباطل لا قرار له، كي يعطي صاحبه متانةً في الموقف، ومندوحةً في المناورة.
وهكذا عندما يكون خطابك مع الآخر تشكيكياً فيما تؤمنان، وصولاً إلى يقين منشود، فإنك تكون قد بذرت بذور الشك فيما يعتقده من أفكار ويؤمن به من قناعات. إذاً، هناك عملية إخلائية تجريدية تكشح كِلَلَ الرواسب والخلفيات الفكرية المسبقة، وتميط اللثام عن واقعية ذهنية قشيبة لا بد لنا من ممارستها، وهذا مما يمهد السبيل لانطلاق الحوار في كل تفاصيل الموضوع المطروح للنقاش، فلا محذورات ولا محرَّمات تؤطره وتعيقه عن الحركة والتقدم، وبهذا نكون قد سوينا التربة العقلية والنفسية بمستوى يجعلها تتقبل كل ما يطرح في الحوار مما يصمد أمام الحجة والبرهان. وهكذا، فإن الحوار إذا سلك مساره الطبيعي متخففاً من كل الرواسب، متجرِّداً عن كل ما يحيط به من أجواء مشحونة ومعرقلة، فلا بدَّ له أخيراً أن يُثمِّر بثمار الحقيقة هدف الحوار. إلى هذا، فإن للداعية اتباع أسلوب خطابي آخر مع محاوره، حاصله: إن رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأيك خاطئ يحتمل الصحة، وهنا يختلف الحوار عنه في الأول، فإذا كان الشك فيما نعتقد هو المنطلق للحوار في الأسلوب الأول فالثبات في الاعتقاد وصحته مع فتح باب احتمال الخطأ هو المنطلق للحوار في الأسلوب الثاني، ومن هنا فيكون الآخر مطالباً بإعطاء الأدلة والحجج فيما ننكره ولا نقرُّ به، مما يعتقد ويعتنق، بوضعيته غير الحصينة وسلاحه غير الماضي كيف ذلك، والباطل والضلال مآلهما إلى زهوق.
يقول تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ...﴾ (الأنبياء: 18) ويقول تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: 81) إلى هذا، فإن خصوصية هذا الأسلوب كونه يجعل الآخر في موقع ينكشف له من خلاله وهن موقفه، وعدم تماسك أدلته مقارنة مع محاوره، فينقلب على ذاته في حيرة مترددة بين تبني موقف المحاور أو التمييع والمراوغة والعناد. إلى ذلك، فليس للداعي تلمس الباطل للوصول إلى الحق، فهذا مما يخرج الجدل عن الغاية التي من أجلها وجد، وهي إثبات الحق وكشح الباطل عنه، فمن الطبيعي عندما تريد أن تجسد الفكرة الحقة في خطابك مع الآخر، فعليك بالمقابل أن تزيل الفكرة الباطلة منه، وإلا فإنه لا محالة سيجد "الداعية" نفسه متناقضةً بين ما يريد إثباته وما يريد نفيه، وهذا مما يجعله في موقف مرتبك ملتبس أمام ذاته والآخر، فالارتكاز للفكرة الباطلة في عملية الجدل والمحاورة، قد تستلزم الاتكاء على أفكار باطلة أخرى، مما يوسع من دائرة الباطل على حساب الحق المفترض كون الحوار مجسِّداً له وحده فقط، أضف إلى ذلك إن لهذا الأسلوب من التعاطي مخاطره الجمة من حيث إنه يصير فتنةً على الضعفاء من المؤمنين فتغم قلوبهم لما يرونه من ضعف الحق في يد الباطل، وكذلك يصير فتنة على المبطلين من حيث إنهم يجعلون من ضعف حجة "الداعية" حجة لباطلهم، وما تقدم مضمون ما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام الذي اعتبر فيه أن أمثال هذا الجدال محرم على شيعته، ولذلك فقد روي عنه عليه السلام قوله: (لا تمزج الحق بالباطل، فقليل الحق يغني عن كثير الباطل). وأخيراً، لا بد للخطاب الإسلامي أن يتخفف من واقعه الدوغمائي الإملائي تجاه الآخرين، وبالمقابل لا بد من تسلّحه بالمحاورة والجدال والانفتاح المعرفي على كل الطروحات التي تملأ الواقع وتستغرق ذهنية العصر، وذلك بغية التلاقح وتفتق الذهنية على آليات ووسائل معرفية وعلمية جديدة، والغوص بعيداً وبدون رهبة المحرَّمات في أصول الفكرة والإيمان والمعتقد.