الشيخ حسن أحمد الهادي(*)
الحوار هو الوسيلة الأنجع في التفاهم والتقارب الإنسانيّ بين البشر. ومن دونه يقع التصادم، وتتزلزل الحياة الاجتماعيّة وتضطرب. وقد علّمنا الله تعالى أُسس الحِوار، وذلك بِحواره مع الملائِكة في خَلق الإنسان، إذ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30). ولم يَقتصِر سبحانه بِحواره على الملائِكة، وإنّما شَمِل ذلك إبليس أيضاً(1)، عندما أمَره بالسّجود لآدم عليه السلام، فأبى واستكبر، وكانت الحِكمة من ذلك أنْ يُعلّمنا كيف نُحاوِر أعداءنا. كما يتجلّى الحِوار في حياة الأنبياء والرُسل عليهم السلام، في مُحاوراتِهم لِأقوامهم خِلال الدّعوة بِأسلوبٍ سَلِس وليّن. وقد جاء في خطابه صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل الكتاب، قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾ (آل عمران: 64).
•الحوار أسلوب للتبليغ والإصلاح
لقد أسّس الدين الإسلاميّ للحوار بنياناً شامخاً، وأقام له كياناً سامقاً وشأناً رفيعاً، وجعله ركناً مهمّاً لقيام المجتمع المسلم وعلاقته بالمجتمعات الإنسانيّة الأخرى. وما الدعوات التي تؤكّد مفاهيم الأخوّة والتعاون والإحسان والحريّة والعدالة والمساواة، الموجّهة لعموم الناس، مهما تعدّدت القبائل والشعوب وتنوّعت المجتمعات، إلّا خير دليل على ذلك.
وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه وغيرهم مصداقاً واضحاً لهذه التوجيهات الربانيّة، فكانت حركته العمليّة تعتمد أسلوب العظة والتذكير، وتفتيح العقول والقلوب على الحقّ، دون أيّ ضغط أو قهر وإكراه، كما حكى القرآن الكريم: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90). وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم في خطابه لهم: ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُم﴾ (سبأ: 46)، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 57).
•نماذج من حوارات الأنبياء عليهم السلام
كان أسلوب الوعظ والحوار هو سبيل الأنبياء والرسل عليهم السلام كلّهم مع أقوامهم دون استثناء، نشير إلى نموذجين منها:
1- حوار بين الخليل إبراهيم عليه السلام وقومه: يحكيه القرآن الكريم فيقول: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ*فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 75-79).
ففي هذا المقطع من الحوار الشيّق، يأخذ الخليل عليه السلام بأيدي قومه بشكل تدريجيّ رائع نحو الإيمان الصحيح، بعد الإدلاء بالحجّة العقليّة الدافعة التي لا مردّ لها، ولا مجال للشكّ أو الريب فيها.
2- حوار النبي نوح عليه السلام مع قومه: استغرقت دعوة النبيّ نوح عليه السلام قومه وصبره عليهم ألف سنة إلّا خمسين عاماً من عمره، يقدّم لهم أنواع النصح والإرشاد. ويسوق القرآن الكريم مقطعاً من أحد حوارات نوح عليه السلام مع قومه فيقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ*قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ*أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ*فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ﴾ (الأعراف: 59-64).
ويتكرّر هذا المشهد من الحوار بين هود وقومه، وبين صالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وقومه، وموسى وقومه، وعيسى وقومه، وكلّ الأنبياء عليهم السلام وأقوامهم.
•الجدل: مبغوضٌ ومحمودٌ
الحوار والجدال والمناظرة كلّها ألفاظ متقاربة لمعنى واحد، وإن كان أكثر ما جاء من لفظ الجدال في القرآن الكريم يطلق على الجدال المذموم، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ (الكهف: 56). ولكن جاء لفظ الجدل في القرآن أيضاً في مواضع محمودة، وهي تعبير آخر عن الحوار، منها قوله تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (العنكبوت: 46)؛ فهذا جدَل بالتي هي أحسن لدعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام.
والجدال المحمود نوع من الحوار، وإن عُبّر عنه بالـ"جدال بالتي هي أحسن"، وهو أسلوب للتبليغ وللدعوة إلى الله والحقّ، اعتمده القرآن الكريم وأمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم باستخدامه. وقيد (بالتي هي أحسن) ينقل الجدال من أسلوب يعتمده أعداء الحقّ إلى أسلوب يستخدمه الدعاة إلى الحقّ، حيث يشكّل هذا الأسلوب قناةً للتواصل بين الهداة والضالّين، ووسيلةً لنشر الهداية.
والجدال بالتي هي أحسن هو: "فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج بالتي هي أحسن، وفيه الرفق والوقار والسكينة مع نصرة الحقّ بالحجّة"(2). ولا يستهدف هذا الأسلوب تحقير الطرف الآخر أو الانتصار عليه، بقدر ما يهدف إلى النفوذ إلى عمق أفكاره وروحه ومشاعره.
•شروط المجادلة بالتي هي أحسن
عندما ندقّق في أسلوب حوارات الأنبياء عليهم السلام مع الأعداء والظالمين والجبّارين، كما يعكسها القرآن الكريم، أو كما تعكسها المناظرات العقائديّة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أئمّة أهل البيت المعصومين عليهم السلام، وبين أعدائهم وخصومهم، ننتهي إلى دروس تربويّة في هذا المجال، تحتوي في تفاصيلها على أدقّ الأساليب والوسائل النفسيّة، التي تسهّل لنا النفوذ إلى أعماق الآخرين، نذكر منها:
1- عدم إثارة صفة العناد والتعنّت والتعصّب لدى الطرف الآخر، وعدم استفزازه في ما يقدّسه، وإلى هذا يلفت القرآن الكريم: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108)، كي لا يصرّ هؤلاء على عنادهم، ويهينوا الخالق جلّ وعلا بتافه كلامهم.
2- اعتماد الصفح والعفو ما أمكن، وعدم الردّ على السيّئة بمثلها؛ إذ إنّ الردّ بهذا الأسلوب الودود يؤثّر كثيراً في تليين قلوب الآخرين، كما يقول القرآن الكريم: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34).
3- دفع الطرف المقابل ليصل هو إلى النتيجة؛ لأنّه سيكون أكثر تأثّراً. فمن المهمّ أن يعتقد الطرف الآخر أنّ النتيجة أو الفكرة نابعة من أعماقه وهي جزء من روحه؛ كي يتمسّك بها أكثر ويذعن لها بشكلٍ كامل. وقد يكون هذا الأمر هو سرّ ذكر القرآن للحقائق المهمّة، كالتوحيد ونفي الشرك وغير ذلك على شكل استفهام، أو أنّه بعد أن ينتهي من استعراض أدلّة التوحيد يقول بصيغة الاستفهام: ﴿أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ﴾ (النمل: 60-64).
4- امتلاك المجادل بالتي هي أحسن العلم الكافي بالموضوع الذي يجادل به وأدلّته السليمة. وقد نهى الله تعالى عن الجدال بغير علم، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ (لقمان: 20).
5- التجرّد من الغايات الشخصيّة، والإخلاص لله تعالى في الحوار، فلا يهدف المرء إلى إثبات تفوّقه على خصمه، أو يسعى لأجل الشهرة وجلب قلوب الضعفاء، أو إطفاء نائرة الغضب وتشفّي النفس، بل يجب أن يكون هدفه هداية الطرف الآخر.
6- أن يكون الحوار بهدف الوصول إلى الحقّ، ويكون على الأقلّ أحد الطرفين متمسّكاً بالحقّ ومستهدفاً السبيل إليه في ما يخوض من نقاش ومناظرة. أمّا إذا كان الجدل بين الطرفين بهدف التفاخر واستعراض القوّة، وفرض الرأي على الطرف الثاني عن طريق أساليب ملتوية، فإنّ عاقبة هذا الأمر لا تكون سوى الابتعاد عن الحقّ، وزيادة الظلمة في القلوب وتجذّر العداء والحقد لا غير.
7- ترك المراء والخصومة، فقد نهت الروايات والأحاديث الإسلاميّة عن المراء والجدال الباطل؛ لأنّ في هذا النوع من النقاش والحوار سوف ينحدر الكلام تدريجيّاً ليصل إلى درك الاستهانة، وعدم الاحترام، وتبادل الكلام المبتذل والقبيح، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاكم والمراء والخصومة، فإنّهما يُمرضان القلوب على الإخوان، وينبت عليهما النفاق"(3).
في الخلاصة، إنّ مثل هذا النوع من الجدال، والذي يكون عادةً فاقداً للالتزام بالأصول الصحيحة للبحث والاستدلال، سيقوّي روح اللجاجة والتعصّب والعناد لدى الأشخاص، بحيث يستخدم كلّ طرف -بهدف التغلّب على خصمه والانتصار لنفسه- كلّ الأساليب، حتّى تلك التي تنطوي على الكذب والتهمة، ومثل هذا العمل لا يمكن أن تكون عاقبته إلا السوء والحقد وتنمية جذور النفاق في الصدور(4).
(*) أستاذ في الحوزة العلميّة، وباحث إسلاميّ.
1.راجع: سورة الأعراف، الآيات: 10-16.
2.التبيان في تفسير القرآن، الطوسي، ج 6، ص 44.
3.الكافي، الكليني، ج 2، ص 300.
4.الوافي، الكاشاني، ج5، ص939.