شاهين: ومأزق الوقوع في المحذور...
على امتداد أكثر من مساحة وفي عصر ميزه المسلمون في الأندلس عطاء وتنويراً للعالم وللإنسان.
هكذا أتى سيناريو "المصير" للمخرج المصري يوسف شاهين حسب بعض تصاريحه الصحفية.
من بلاد الأندلس آخر معقل عربي إسلامي في أوروبا إلى شمال فرنسا وصولاً إلى أرض النيل تتفاعل الأحداث وتتواتر في تزامن مع سطوع نجم العلامة القاضي ابن رشد فكراً ومعرفةً وانحطاطاً غربياً فظيعاً..
المصير.. قصة حقبة زمنية لإحدى الإمارات العربية الأندلسية على شاكلة صراع بين الحكم والمحكوم من ناحية وبين العلم والخرافة من ناحية ثانية في صراع درامي متين، فهل نجح شاهين في إيصال صورة هذه الحقبة الحاكمة من تاريخنا الإسلامي، من خلال فيلمه "المصير"؟؟
من جديد.. يوسف شاهين يستفزّ الجماهير، وكأنّي بالرجل عاشق لإثارة الأزمات ومتفنّن في خدش مشاعر الناس.. فمنذ فترة ليست ببعيدة قامت حملة ضدّه على أثر عمله السينمائي "القاهرة منورة بأهلها" حيث اتهم يوسف شاهين صراحة بإهالته التراب على وطنه وأهل وطنه مصر ومن بعدها أطل شاهين وبإصرار أكبر على الماضي قدماً في نهجه المعتمد بفيلم "المهاجر" ليظهر الرجل أمام النقاد والمهتمين منسلخاً عن جلده وعن دينه وعن أرض لها الفضل في شهرته وعالميته. فقد جاء فيلم "المهاجر" بمثابة إعادة للطرح اليهودي الذي يملك مفاتيح الخلاص من بؤر التخلّف والفقر للعالم في إساءة بالغة لشخص سيدنا النبي يونس عليه السلام من ناحية، وفي إطار الخدعة التصويرية وجو من الموسيقى وجمالية التقنيات الفنية الحديثة من ناحية ثانية، واليوم فيلم "المصير" يأتينا اليقين بأن أعمال المخرج يوسف شاهين الأخيرة إنّما هي تقويم حقيقي لفكر صاحبها واتجاهه في الحياة.
"المصير" قامت الدنيا من أجله، تطبيلاً وتزميراً ولم تقعد، وهذا التطبيل الغارق في الأوهام ما هو سوى نتاج حركة سينمائية ساقطة كما الزمن الذي نحياه. إنّ حنكة المخرج ودهاءه في جعل علاقات عمله دائرية مغلقة متداخلة وضبطها في دائرة الحبر مغلقة – هي بدورها الدائرة الزمنية التي يعيشها أبطال الفيلم – هذه الحنكة جعلت المشاهد العادي ينبهر من دون وعي ولا دراية وينساق سعياً منه لمواكبة الحدث الآتي من مسارات العلاقات بين الشخصيات "ناصر، يوسف، مروان" أنماط ثلاثة في صورة علائق متشعبة في محاولة لإسقاط بدائل وأفكار لما يحياهُ الإنسان اليوم من اختلاف مع ذاته ومع الآخرين وفي هروب دائم إلى الأمام (نحو الغرب)... الخمارة والرقص ليصل حد ّ التناقض في المنصور عند اختيار المنفذ اليتيم والذي عبّر عنه المخرج بنهر مائي يوصل يوسف إلى الجبهة الأخرى من البلاد حيث الإفرنجة يتمركزون (الذين خدمهم شاهين خدمة لم يسبقه إليها أحد، فقد أكّد أحقيتهم في وراثة الأرض التي لا تليق إلاّ بهم، على حدّ وصفه).
ابن رشد العلاّمة والفيلسوف والذي تدون أحداث الفيلم حول شخصيته ... كان الضحية الأكبر بدل أن يكون البطل، لقد ظلم الرجل حياً وميتاً... ابن رشد ضحية في الماضي حيث أحرقت مكتبته وضحية ليوسف شاهين حين طرح شخصيته على هذه الشاكلة. الفيلم مكلف جداً من الناحية المالية فيمن الوضوح بمكان دقة اختيار الأماكن والمعدات التقنية المتقدمة، إضافة إلى الحملات الإعلانية قبل وبعد عرضه، إلاّ أنّ هذا الأمر لم ينقذ مخرجه من عدة مغالطات سواء منها التاريخية أو الفنية.. الأمر الذي يجعلنا نتساءل من وراء هذه المغالطات والإسقاطات؟
لقد لعبت الخبرة الغنية دورها حين استطاع شاهين مزج الطابع الاستفزازي في صورة كاريكاتورية للأشخاص وفي عبث المواقف وسوريالية العلاقات، حيث نلحظ أن زوجة ابن رشد ما هي سوى مستوى متدنٍ لصورة المرأة العربية المسلمة في ذاكرة ولّت فهي لا ترى في الحياة غير المأكل والطهي دون سواهما إضافة إلى الحجاب المشوه – بإظهارها بصدر نصف عارٍ.
- المغني مروان أيضاً هو إسقاط زمني غير مبرّر سواء من حيث المشهد أو من حيث لحظة الحدث السياسي وارتباطه بالواقع المعيشي وتداخله مع الداخل فعلاقة مروان بالأطراف الأخرى إذا استثنينا "يوسف وناصر" نجدها بمثابة الدعوة إلى الانحلال الخلقي – كدعوته للرقص والغناء بدل التعبد والتدين "أرقص غني فالأغاني لسّه ممكنة" – ورفض للروابط الشرعية المقدسة التي تحياها جميع الديانات السماوية.
- ابن الحاكم الرمز الآخر القادم عبر دمغة الخيال والحبك الروائي المتقن... يأتي لينذر العالم.. ليرهب ليقتل ويغتال نفسه الداخلية عندما استجاب في النهاية لدعوة المغني مروان وزوجته الراقصة مانويلا.
هكذا أراد يوسف شاهين إسقاط فكره ودعوانيته للدين الإسلامي وأن يقدم صورة قاتمة عن الإسلاميين بحيث يبدون مسيّرين بعدوانيتهم التي أنتجتها أفكار مغلوطة يطرحونها بعصبية عمياء دون أدنى تجرد أو استعراض منطقي لفرضياتهم، وتصويره للإسلام على أنّه ضرب من النشاذ البشري وخلية إرهاب تحكمها زمرة من المشعوذين والدجالين عبر القرون.
وفي المقابل، تجد صورة مروان المغني مع مانويلا زوجته الراقصة يبعثان معاً الفرح والحب والأمل ويوجهان الدعوة للإستمتاع بالحياة والرقص الأمر الذي يجعل فيلم "المصير" سبقاً ليس له مثيل على صعيد السينما العربية من ناحية المفاهيم المستهجنة والتي أفرزتها رؤيته الفلسفية الخاصة ذات الطابع الاستفزازي الشيء الذي زاد في عمق الهوة ما بين هذه الرؤية وصاحبها فشخصية الأمير القائد ويوسف اللاجئ الهارب خير دليل على ما يكنّه الرجل في نفسه، أمّا سارة فكانت الورقة الرابحة أو بالأحرى السبيل الأسهل للاستمالة وكسب النفوس حيث استغل شاهين ما استطاع الجانب الأنثوي وما يحويه هذا الأخير من إغراءات وسيطرة على الآخر في رسالة واضحة إلى مشروعية جميع العلاقات في صورة غياب دائم للعقل.
إنّ الأسلوب الشكلي والبحث الدرامي اللذين تبناهما يوسف شاهين يظهران مدى تأثر الرجل بالمفاهيم الغربية سواء على الصعيد الفكري أم على صعيد المعالجة القصصية للقضايا الإنسانية.
"المصير" إذاً، رؤية غربية لمشاهدين عرب.. رؤية لا تكاد تصل حتّى تسقط في الممنوعات وفي بريق غريب في عيون الشخصيات، فقرار حرق مكتبة القاضي ابن رشد والتهاب صخب الموسيقى مع ألسنة اللهب لم تنقذ شاهين من خطأ الربط بين صورة التصوف وبين أغنية مروان الداعية إلى الحياة دون تبصر ولا قيود.
يوسف شاهين وساعة اقتراب إعلانه إسلامه ما هي سوى وسيلة وقَعَ الترويج لها في الأوساط العربية حتّى تكون ورقة دخول وطريق تعاطف مع عمله "المصير".