آية الله جوادي الآملي
اتضح في الأبحاث السابقة أن الإنسان المتكامل هو الذي يشاهد نفسه دائماً في محضر الله سبحانه، وهذه المعرفة الإلهية هي عامل نجاته من الانحراف وتؤدي إلى ابتعاده عن الذنوب والغفلة. كذلك اتضح أن الميزة الأخلاقية للعامل المسلم في النظام الإسلامي هي معرفته اللازمة بالعمل الذي يؤديه وكذلك العمل بمقتضى تلك المعرفة. فهو عالم ومتخصص وأمين وملتزم. وبتتبع الأبحاث السابقة وكمقدمة للأبحاث المقبلة نتوقف عند هذه النقطة وهي أن جميع المقامات والمناصب في النظام الإسلامي تعد أمانات إسلامية خاصة أودعت بأيدي المسؤولين. وحفظها من الإفراط والتفريط يعتبر وظيفة أساسية لهم. وكذلك فإن احترامها وحفظها من تطاول الأيدي والتعدي يعدّ من الأحكام الضرورية لدين الإسلام المبين.
ويؤكد القرآن الكريم على حفظ الأمانة وأدائها إلى أهلها. وهذا الأمر الأخلاقي النافع يعتبر أفضل عامل لتنفيذ القوانين، وبدونه لا يمكن لأي قانون أي يؤمن سعادة البشرية كما عبر القرآن ببيانات عديدة فأحياناً عند وصف المؤمنين والحديث عن خصالهم يذكر رعاية الأمانة كقوله:
﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾ فلا يكفي لتحقيق الفلاح والفوز أداء الصلاة والخشوع فيها والإعراض عن اللغو وأداء الزكاة وحفظ الفقه. وإن كانت هذه ضرورية ولازمة.. بل ينبغي رعاية الأمانة واحترام الالتزام لأجل الخروج من النقص إلى الكمال، وبدون حفظها لا يمكن الوصول إلى الجنة. وهذا المعنى قد ذُكر بعينه في سورة المعارج في تعداد صفات المصلين الحقيقيين بقوله تعالى:
﴿إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين﴾. فالإنسان قد خلق عاجزاً طامعاً. وهو يجزع أمام الحوادث الصعبة ويبخل عندما تأتيه النعم إلا المصلي. لأن الصلاة تمنعه من كل آفة:
﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾.
ولكن ينبغي تذكر هذه المسألة وهي أن الذنوب والمعاصي تمنع من الصلاة الصحيحة. فالصلاة لا تنسجم مع المنكر وبينهما تزاحم وتضاد مستمر. ثم يذكر القرآن الكريم الصفات الحسنة للمصلّين الحقيقيين ويقول: ﴿والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾. ثم:
﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾. فالمصلي يراعي حرمة الأمانة وقداسة الميثاق والعهد. وخيانة الأمانة وحنث العهد من المنكرات التي لا تتلاءم مع روح الصلاة الواقعية، بل تسلب ذلك من الإنسان. فلا المصلي الحقيقي يخون الأمانة، ولا الخائن يصلي صلاة صحيحة. لهذا، فإن رعاية الأمانة واحترام العهود العملية من لوازم الصلاة الواقعية ومن صفات المصلّين، ولعله من هذه الجهة جعلت الصلاة عمود الدين وكان تطبيق الأحكام والتعاليم الدينية في ظلها. فالصلاة لا تمنع من ارتكاب الرذائل الأخلاقية الفردية فحسب، بل تقف بوجه جميع المفاسد الاجتماعية وغيرها.
فالعامل في المجتمع الإسلامي الذي يقيم الصلاة لا يمكن أن يخون في عمله ومنصبه. ويبين نبي الإسلام الأعظم صلى الله عليه وآله حقيقة الصلاة بقول: "مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الأطناب والأوتاد والغشاء وإذا انكسر العمود لم ينفع وتد ولا طناب ولا غشاء". لهذا فإن أي أصل من أصول المجتمع لا يتحقق بدون الصلاة التي لا تبقي مجالاً للانحراف والفساد. أيها المصلي! اختبر نفسك، وادعُ نفسك إلى الحساب في محكمة الروح والوجدان حتى يتبين لك إذا كنت من المصلّين الصادقين أم لا؟ وقد تبين لك ما هو المعيار الصحيح للصلاة وأثرها. فإذا ظهرت آثارها في الإنسان فليعلم أن صلاته صحيحة وعبادته مقبولة، وإلا فلا صحة ولا قبول وعليه حينها أن يتدارك ذلك بالخروج من الكدورات والاغتسال بمياه نبع الصلاة الزلال والغوص في كوثرها من كل درن. يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "إنما مثل الصلاة فيكم كمثل السرى وهو النهر على باب أحدكم يخرج إليه في اليوم والليلة يغتسل منه خمس مرات، فلم يبق الدرن مع الغسل خمس مرات ولم تبق الذنوب مع الصلاة خمس مرات". ولهذا فإن المصلي لا يمكن أن يبتلى بذنب الخيانة وحنث العهد في العمل وغيره. لأنه يغتسل كل يوم وليلة خمس مرات، فلن يبقى أي مجال تتجمع الكدورات وغبار المعاصي. فيا أيها المصلي! امتحن نفسك، هل أنت مثل المتكلم أم أنك مثل المتطهّرين والمتنزهين.
وباختصار، إن التقصير في أداء الوظائف، والتباطؤ في الامتثال للأوامر الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية الصادرة من الإسلام لا يمكن أن تنسجم مع روح الصلاة، ولا يمكن أن يقع المصلي الواقعي بمثل هذا الابتلاء. وقد قال الإمام الرضا عليه السلام: "الصلاة قربان كل تقي". وحيث أن العاصي والمتعدي على حقوق الآخرين والمبتلى بأموال الناس والخائن في المنصب والمقام والجشع للرئاسة والجاه، والمستخف بالوظائف الاجتماعية ليس تقياً فإن صلاته لا يمكن أن تقربه إلى ساحة الله سبحانه. فقد المصلي الذي ينال مقام القرب المقدس هو الذي تنزه عن الذنوب ولم يتلوث بالمعاصي. إن كل إنسان بقدر صلاحه، يتمتع بالصلاة الصحيحة والمقبولة، وعلى أساس ذلك يتقرب إلى الله تعالى. فالصلاة عبادة خاصة تحارب كل فساد وتمنع كل منكر ولا تسمح لأي عامل أو مجاهد أن يتخلف عن أداء تكليفه، أو سوء استخدام منصبه، وبكلام مختصر: تحارب الصلاة جميع الانحرافات والجهالات الأخلاقية يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "ما من صلاة يحضر وقتها إلا نادى ملك بين يدي الناس، أيها الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم". والمؤمنون الخواص يسمعون هذا النداء وبقية المؤمنين يقبلونه وإن كانوا لا يسمعونه. ولو كانت الصلاة عبارة عن أذكار وأوراد لفظية، ولا دخل لها في بناء الإنسان السالك، لما كان هذا النداء الملكوتي ليصدر إلى الناس، ولم تكن الصلاة الصحيحة مخالفة للخيانة والمنكر، ولما كان نداء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليُنقل. فجميع هذه الأحاديث دليل على أن التعاليم الإسلامية إنما كانت لأجل تثبيت أركان المجتمع الصالح وتربية الإنسان المتكامل. والصلاة التي تقف على رأس البرامج الدينية، لا تسمح بالاستخفاف بالمسؤولية أو التأخر عن الوصول إلى مكان العمل أو التأخر في الامتثال للأوامر الاجتماعية، أو التعامل القاسي والسيء مع القادة أو عصيان أوامرهم.
ولهذا ذكر القرآن الكريم مرات عديدة أن رعاية الأمانة واحترام الميثاق يعدّان من الأوصاف الأساسية للمؤمنين ومن المميزات الفضلى المصلّين. ومن هنا يمكن القول أن دين الإسلام هو نفس السياسة الإلهية الكاملة التي تأثر في جميع أبعاد بناء الإنسان تأثيراً كبيراً، وحيث أن الإنسان حقية واحدة، تترابط جميع شؤونه الوجودية بشكل تام، فإن التعاليم الموجهة إليه منسجمة ومترابطة وممتزجة معاً تشكل بمجموعها واقعية عبادية سياسية. ولهذا ذكر القرآن الكريم والمعصومين عليهم السلام صفات وخصائص للصلاة التي هي دستور جامع وشامل ودائم، بحيث يتبين منها أن المجتمع المصلي لا يمكن أن يتلوث بالمعاصي، والمصلين لا يمكن أن يغفلوا عن مسؤولياتهم الإدارية. لو كان للصلاة جهة عبادية فقط دون الارتباط بسائر الشؤون الحياتية الأخرى، لما ذكرت بعنوان أفضل فضيلة إنسانية بعد معرفة الله تعالى يقول الإمام الصادق عليه السلام: "ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة. ألا ترى العبد الصالح عيسى بن مريم قال: وأوصاني بالصلاة". ويقول عليه السلام: "إن طاعة الله عز وجل خدمته في الأرض، وليس شيء من خدمته يعدل الصلاة، فمن ثمّ نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب". فالصلاة هي الأمر الذي جاء في القرآن تحت عنوان المانع والناهي عن الرذائل الفردية والمفاسد الاجتماعية، والخيانة الوظيفية والاستخفاف بأداء المواثيق الإدارية. والمصلي الواقعي هو الذي لا يتلوث بمثل هذه الأمور أبداً. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "عبد الشهوة أذل من عبد الرق".
والحمد لله رب العالمين.