مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الآداب المعنوية للصلاة: في الاعتبارات القلبية لستر العورة

 


إنّ طريقة أهل الله في الاستفادة المعنوية من العبادات هي أن ينظروا في الأحكام المتعلقة بها، وينعموا هذا النظر حتّى تلوح لهم بعض أسرارها. فإذا عرفوا شيئاً من الأسرار، توجهوا إليها في العبادة العملية، وتطلعوا إلى كنهها في المجاهدة القلبية، إلى أن يتذوقوا حلاوةً منها، فيحصل لهم الأنس، ويجذبهم إلى حيث الشهود والتحقّق.
فالأحكام الشرعية في مقام العمل والأداء والأسرار للتوجّه والرياضة القلبية، والأنس والذوق وليدا السعي والمثابرة. والشهود والتحقّق ثمرة العبادة.
قال الله تعالى:
(واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين). وقال عزّ من قائل: (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم).


ومن الأحكام الشرعية المتعلقة بالصلاة: ضرورة وجوب ستر العورة أثناء الصلاة. وإنّما سمي هذا الموضع من جسم الإنسان بالعورة لأنّه أقبح شيء فيه. وحيث أنّ الصلاة عبارة عن الحضور بين يدي الله تعالى، وجب على المصلّي أن يستر قبائحه وعوراته في محضره واستحب له أن يظهر محاسنه وجماله.
إنّ أهل الله تعالى يستفيدون من هذا الحكم الشرعي استفادات عدة. أهمها أن وجوب ستر العورة في الصلاة – التي هي محضر الله سبحانه – هو دعوة لستر جميع القبائح والعورات الباطنية. ذلك أنّ المصلّي ينبغي أن يحضر بتمام وجوده ومراتب وجوده بين يدي رب العالمين.
وإذا كان إظهار العورة مبطلاً للصلاة، فإنّ بقاء العورات الباطنية مخلّ بالحضور، ويمنع المصلّي من الورود الحقيقي في محضر الله تعالى. فها هنا عدّة حقائق ذكرها الإمام في "آداب الصلاة".
أولاً: إنّ السالك حاضر في محضر الله تعالى بباطنه وظاهره وسره وعلنه. بل هو عين الحضور.
ثانياً: ظهور عورات كلّ مرتبة من مراتب وجود الإنسان مخلّ بالحضور.
ثالثاً: وجوب ستر جميع العورات ليحصل الحضور.
وقبل أن نذكر طريقة الإمام في ستر العورات القلبية والباطنية، نشير إلى بعض ما يتعلّق بهذه الحقائق.

يقول الإمام (س): 
"إذا رأى السالك نفسه حاضراً في محضر الحق المقدس (جلّ وعلا)، بل وجد باطنه وظاهره وسره وعلنه عين الحضور.. وبالجملة، إذا رأى نفسه بجميع شؤونها عين الحضور، يستر جميع عورارته الظاهرية والباطنية لحظ المحضر وأدب الحضور" (آداب الصلاة).
إنّ جميع المعتقدين بالله تعالى يؤمنون بأن كلّ العالم واقع تحت سمع وبصر الله سبحانه، وأنّه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض. لهذا فكلّ إنسان حاضرٌ دائم – شاء أم أبى- في هذا العالم الذي هو محضر الحق عزّ وجلّ. إلاّ أنّ القليل منهم الذي يعتقد بأنّ العالم بما فيه هو عين الحضور. والأقل من هؤلاء الذي يرون هذه الحقيقة. ولهذا فإنّ المعتقدين عموماً لا يسارعون إلى ستر العورات الباطنية. وإلى هذه الحقيقة يشير إمامنا الخميني(س) قائلاً:
"لقد ثبت بالبرهان المتين المحكم في العلوم العالية أنّ كلّ دائرة الوجود، من أعلى مراتب الغيب إلى أدنى مراتب الشهود، هي عين التعلق والربط ومحض التدلي والفقر إلى القيوم المطلق (جلت عظمته)، ولعله أشير إلى هذا المعنى في الآية المباركة: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد). فإنّ الموجود الذي لا يكون – في أي حال أو آنة وحيثية – متعلقاً بعز القدس الربوبي يخرج من بقعة الإمكان الذاتي والفقر ويدخل في حريم الوجوب الذات والغنى". (آداب الصلاة).
أي أنّ جميع الموجودات الإمكانية [ما سوى الله تعالى] يكون وجودها واستمرار وجودها وكمالاتها عين التعلق. فلا شيء ذاتيٌ لها حتّى يكون متعلقاً أو مرتبطاً بنحو من الارتباط. بل كل ما فيها هو عين التعلق. كما روي عن الصادق (عليه السلام): "إن روح المؤمن لأشد اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها". (الكافي والتوحيد).
وحيث أنّ الإمام (س)، ابتدأ حديثه حول الآداب القلبية لستر العورة بقوله: "إذا رأى السالك نفسه عين الحضور"، فإنّه يدعو كلّ السالكين في طريق الشريعة الغرّاء إلى الوصول في هذه الحقيقة إلى درجة الشهود. فيقول (سلام الله عليه):
"وعلى العارف بالله والسالك إلى الله أن يكتب هذا المطلب البرهاني الحق، وهذه اللطيفة العرفانية الإلهية على لوح قلبه بواسطة الرياضات القلبية، ويخرجه من حد العقل والبرهان إلى حد العرفان حتّى تتجلّى في قلبه حقيقة الإيمان ونوره. وإنّ أصحاب القلوب وأهل الله لا يقفون عند حدّ الإيمان، بل يتقدمون منه إلى منزل الكشف والشهود. وهذا ما يحصل من خلال المجاهدة الشديدة، والخلوة مع الله والعشق بالله، كما في "مصباح الشريعة" عن الصادق عليه السلام أنّه قال:
"العارف شخصه مع الخلق وقلبه مع الله. لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه. والعارف أمين ودائع الله وكنز أسراره، ومعدن نوره ودليل رحمته على خلقه، ومطية علومه وميزان فضله وعدله. قد غني عن الخلق والمراد والدنيا. ولا مؤنس له سوى الله، ولا نطق ولا إشارة ولا نفس له إلا بالله لله من الله مع الله". (آداب الصلاة).

وعلى القارئ العزيز أن يبحث عمن يوصل إليه هذا المطلب العرفاني بطريقة البرهان، ويتجنّب كلّ من يقطع عليه هذا الطريق. فما أكثر أولئك الذين ينكرون مثل هذه الحقائق وهم لا يعلمون عنها شيئاً. وأنا أقول أنّه من الصعب، بل المستحيل، أن ننال فيوضات العبادات وكرامات الطاعات دون معرفة هذه الحقيقة. فإنّها أصل أصول جميع الحقائق من عرفها نجا ومن أنكرها سقط وهوى.
إنّ علم التوحيد الذي يقوم على أساس الحكمة المتعالية مبيّن لهذا المطلب. وليس على الراغب بالسلوك إلاّ أن يتوكل على الله فهو حسبه، إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلّ شيءٍ سبباً..
وبعد حصول اليقين بالدليل ينبغي الالتفات إلى أن الاعتقاد العقلي وإن كان طريقاً للشهود والرؤية، إلاّ أنّه شيء آخر. ولا ينال الشهود إلاّ بالرياضة والمجاهدة والخلوة والعشق. وهي أمور توفرها الشريعة بأوفر ما يكون. وكل من طلب وجد.
وبالنسبة للحقيقة الثانية، يقول الإمام (س): ".. حيث يجد أن كشف العورات الباطنية في محضر الحق أقبح وأفضح من كشف العورات الظاهرية بمقتضى الحديث: "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم".

وما هي هذه العورات الباطنية؟
يقول الإمام(س): "وهذه العورات الباطنية هي الذمائم الأخلاقية وخبائث العادات والأحوال الخُلقية الرديئة. والتي تسقط الإنسان عن لياقة المحضر وأدب الحضور".
ويوجد عورات أخرى سيشير إليها الإمام إلاّ أنّ هذه الذمائم الأخلاقية بقول الإمام هي: "المرتبة الأولى من هتك الستور وكشف العورات".
أمّا المرتبة الثانية والنهائية من هتك وكشف العورات فهي "قبائح التعينات النفسية والظلمات الوهمية". يقول الإمام: "إنّ أهل المعرفة وأصحاب السابقة الحسنى يعلمون أنّ جميع التعينات الخلقية (بفتح الخاء) والكثرات العينية ظلمات، وأنّ النور المطلق لا يحصل إلاّ بإسقاط الإضافات وكسر التعينات التي هي أصنام في طريق السالك. فإذا اضمحلت وانطمست ظلمات الكثرات الفعلية والوصفية في عين الجمع تكون جميع العورات مستورة، ويتحقّق الحضور المطلق والوصول التام" (الآداب).
وقد لخص الإمام جميع العورات التي ينبغي سترها إلى ثلاث، واحدة في مقام الظاهر ولم يشر إليها لوضوحها (وكيفية سترها تعلم من خلال الأحكام الشرعية). والثانية هي المرتبة الأولى بعد الظاهر، وهي الأخلاق الذميمة. والثالثة هي التعينات النفسة. وقد أشار الإمام في طيات حديثه – الذي أعدّه للمبتدئين والعوام – إلى مراتب أخرى في المرتبة تحت عنوان "التعينات النفسية". بمعنى أنّ كل ما يرجع إلى النفس مقابل الله فهو عورة ينبغي سترها. وقد سئل أحد العارفين يوماً: ما طريق النجاة؟ فقال: "ستر العيوب". وما أروعها من حكمة وأعظمها من موعظة. وهي تلفت النظر إلى أنّ ستر العورات الذاتية يتمّ من خلال ستر عيوب الآخرين وعدم فضحهم.
والتعينات النفسية تبدأ من حب النفس ثمّ رؤية الفعل منها مقابل فعل الله تعالى، ثمّ رؤية الصفة منها مقابل صفات الله سبحانه، ثمّ رؤية الذات مقابل الله عزّ وجل. والنجاة من كلّ واحدة تمثل عبور مراتب التوحيد.

ما هي العاقبة المتوقعة لعدم الستر؟
يقوم الإمام (س): "وليُعلم أنّ الإنسان إذا لم يستر نفسه بحجاب الستّارية والغفارية للحق (جلا وعلا)، ولم يقع تحت اسم "الستّار" و "الغفّار" بطلب الغفران والستر، فبعد طي ساتر الملك وارتفاع حجاب الدنيا، ربما تهتك ستوره في محضر الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين (عليهم السلام). ولا يعلم قباحة كشف تلك العورات الباطنية وفضاحتها ونتن ريحها سوى الله تعالى" (آداب الصلاة).
هذا إذا نظرنا إلى عاقبة كشف العورات الباطنية. أمّا الذي يستر عوراته الظاهرية والباطنية. فماذا ينال؟ يقول الإمام (س): "فيلزم على السالك إلى الله أن يبدّل أوصافه وأخلاقه السيئة إلى الأوصاف والأخلاق الكاملة، ويفنى في بحر الصفات الكمالية للحق التي هي غير متناهية، ويبدل الأرض المظلمة الشيطانية بأرض بيضاء مشرقة. ويجد في نفسه قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربّها). ويحقّق في وجوده مقام أسماء الجمال والجلال للذات المقدسة. فيقع في هذا المقام تحت ستر الجمال والجلال، ويتخلق بأخلاق الله تعالى. (الآداب) فمن وقع تحت ستر الحق تعالى بستر عوراته كافة يصل إلى مقام التحقّق بأسماء الله وصفاته. وهو الكمال المطلق اللامتناهي. وتكون صفاته هي صفات الجمال والجلال للحق تعالى. كما جاء في الحديث:"تخلّقوا بأخلاق الله". ويصبح مستوراً بالجمال والجلال. يقول الإمام (س):
"فإذا تحقّق هذا المقام يقع مورداً للعنايات الخاصّة للحق (جلّ وعلا)، ويؤيده الحق بلطفه الخفي الخاص، ويستره تحت حجاب كبريائه، على نحو لا يعرفه غيره، وهو أيضاً لا يعرف غير الحق: "أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم أحد سواي".
ويقول (س): "والمصلي في هذا المقام، كما أنّه مستور بالحق فهو مصلّ بصلاة الحق، ولعلّ صلاة معراج خاتم الرسل (صلّى الله عليه وآله وسلم) كانت بهذه الطريقة في بعض المقامات والمدارج، والله العالم...".

وفي هذه الإشارة الأخيرة من الإمام أسرار عظيمة نطوي عنها في هذه المقالة صفحاً سائلين المولى عزّ وجلّ أن يعرّفنا إلى أسرار دينه.
وقد بقي في هذا المقام تنبيه ووصل من الإمام، سنتعرض لهما في العدد الآتي بإذن لله. والحمد لله.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع