أمل القطّان(*)
كيف تكون التربية عامل انتشار أو انحسار ظاهرة الحجاب؟
سؤال سنحاول الإجابة عليه، منطلقين من تلازم مفهوم العفة والستر؛ لنسلط الضوء على ثلاث محطات هامة تمر بها عملية التربية؛ البيت، المدرسة، والمجتمع، علّنا نعيد النظر فيما إذا كنا نساهم في انتشار أم انحسار العفة والتستر في مجتمعنا وبيوتاتنا.
* الستر والعفة مفهومان متلازمان:
لا يمكن الكلام عن الستر دون التطرق إلى قيمة عليا تحكمه، وتضفي عليه الكمال في كل أبعاده، فليس الستر أمراً ظاهرياً فقط، بل هو ستر باطني يضفي على الظاهر آثاره ولوازمه، وهذا ما يمكن أن نفهمه من آية الحجاب التي أسست لمفردات العفة، كمقدمة مهمة وأساسية للستر الظاهري، يقول تعالى: ﴿... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا...﴾ (النور: 32). لقد أكدت الروايات على قيمة العفاف ومقام العفيف، فعن الإمام علي عليه السلام: "ما المجاهد الشهيد في سبيل اللَّه بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة"(1) وبيّن الإمام الباقر عليه السلام: أن العفاف من أفضل العبادة(2).
* واقعنا الحالي:
إذا نظرنا إلى واقع مجتمعاتنا الحالي، نجد أن مفهوم العفة يكتنفه الغموض، ويحتاج إلى تعزيز وتأسيس في نفوس الناس. ولعل التهاون والجهل بهذه القيمة ومصاديقها أدى إلى انحسار كم من القيم، أحدها قيمة ستر المرأة لمفاتنها عن الرجال الأجانب. ولعل العلاج يبدأ من هنا، فإذا استطعنا أن نعيد لهذه القيمة مكانتها وقيمتها في نفوس المسلمين، نكون قد قطعنا شوطاً في تقويض أسس الفساد وأسباب البعد عن الستر الإسلامي الذي أراده اللَّه حفظاً وصوناً للمجتمع ككل، فبالعفاف تزكو الأعمال، والسؤال الذي يطرح نفسه كيف نؤسس ونربي للوصول إلى الستر والعفة التي هي رأس كل خير؟
* البداية من المنزل:
لا بد أن نبدأ من المنزل، فهو البيئة الأولى التي تنشأ فيها الفتاة، وهو الذي يوكل إليه تعزيز القيم الإيجابية في نفس وعقل الفتاة، وتمييزها عن القيم المزيفة، التي تلبس لبوس القيم الأصيلة، وهذا الأمر يمكن أن يتم من خلال:
1- الأهل قدوة: من أهم أساليب التربية الفعالة التربية بالقدوة، فالفتاة كما هو معلوم، تحاكي أمها في مرحلة الطفولة الأولى، وتقلِّدها، ثم تبدأ بتبني ما كانت تقلّده، حتى يصبح قيمة مستقرة، وجزءاً من شخصيتها، لذلك لا يمكننا أن نتوقع أن تتأثر الفتاة في هذه المرحلة إلا بما تتمثله أمها من قيم، وما تمارسه من تصرفات.
2- مفهوم الجمال: من القيم التي فطر اللَّه الناس عليها الجمال، إلا أن الآباء يلعبون دوراً مهماً في تحديد مفردات الجمال وأبعاده ومصاديقه. وهنا يجب توخي الدقة، إذ إن تعامل الأهل على خلفية كون جمال الفتاة محصوراً بجمالها الخارجي، ومظهرها، وتكريس ذلك عبر الممارسة في الإفراط بإبراز هذا الجمال، وجعله معياراً للتفاضل، يشكل عائقاً في طريق قناعة الفتاة بإخفاء هذا الجمال وعدم إظهاره. بينما نجد أن الروايات تتحدث عن مفردات مهمة للجمال، فهو جمال اللسان والمنطق، والجمال في العقل الذي هو جمال باطني غير ظاهر.
3- التزين حاجة: تميل الفتاة بطبعها إلى إبراز محاسنها وجمالها، وتحب أن تتجمل وتتزين، وليس في هذا بأس، إذا ما تم ضمن حدود ونطاق المحارم ومجتمع النساء، ومن دون أن يتعارض مع قيمة العفة لكونه فاضحاً ومبتذلاً، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "البس وتجمّل، فإن اللَّه جميل يحب الجمال وليكن من حلال"(3).
4- من دون قسوة: لا يمكن الوصول إلى نتائج تربوية جيدة، وقيم راسخة في نفس الفتاة، تكون موجهة لسلوكها أينما كانت حتى مع عدم وجود الأهل أو المربين، إلا من خلال العمل على تكوين قناعة داخلية، تدفع الفتاة نحو سلوك العفة والتستر في كل الأمكنة والمواقف، وهذا الأمر لا يتم بالإكراه والقسوة والإملاء، بل قد يكون لهذه الأساليب مفعول عكسي لا تحمد عقباه.
* دور المدرسة
المحطة الثانية في مسيرة التربية هي المدرسة حيث تقضي الفتاة جزءاً مهماً من وقتها فيها، لذلك لا بد من التركيز على ما يلي:
1- الأجواء الإيمانية: تلعب البيئة المدرسية دوراً مهماً ومؤثراً في تكوين شخصية الفتاة، فإذا ما كانت أجواء المدرسة توحي وتجسد قيم العفة أثّر ذلك عليها تأثيراً كبيراً. إن الالتفات الدقيق لأجواء المدرسة، والعمل على ضبط أجواء الاختلاط، حتى في المراحل العمرية الصغيرة، مهم وضروري لتحقيق ما نريد.
2- القدوة والأسوة: تتأثر الفتاة في المرحلة المدرسية الأولى بمعلماتها، وهذه فرصة ثمينة يمكن استثمارها لزرع القيم العليا في نفس الفتاة، حيث لا يتحقق ذلك ما لم تشاهد الطالبة وتعايش تمثّل هذه القيم في سلوك وتصرفات معلماتها، وليس فقط معلمة التربية الدينية...
3- التعليم الديني: لا تغني البيئة المدرسية السليمة ولا وجود النماذج الجيدة والصالحة عن ضرورة تعليم الأسس النظرية والأحكام الشرعية والقرآن والحديث وسيرة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، والتركيز على سيرة الصديقة فاطمة الزهراء والسيدة زينب عليهما السلام. وهنا لا بد من التركيز على ضرورة كون عملية التعليم هذه عملية شيقة وممتعة.
* مسؤولية المجتمع
المجتمع هو المحطة الأخيرة، في مقالنا، وهنا توجد عدة نواحٍ علينا الالتفات إلى كونها ذات حدين، فإما أن تساهم في بناء القيم التي نريد، أو تساهم في هدمها وزرع نقيضها:
1- الأصدقاء: تلعب الصديقة دوراً مهماً في تكوين وبناء قيم الفتاة، فإذا كانت صالحة ساهمت في بناء القيم الحسنة، وإن كانت سيئة، ساهمت في إفساد منظومة قيم الفتاة، وتشجيعها على الانحراف، وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حيث يقول: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"(4)..
2- الإعلام: للإعلام اليوم دور كبير ومؤثر في تشكيل قيم الأفراد، خصوصاً الأطفال والفتية، وقد يكون هذا الأثر إيجابياً إذا كان الإعلام موجهاً، وواضح الأهداف، يحمل قيماً إنسانية ودينية سامية، وإلا فإنه سيكون من أكثر العوامل إفساداً وتخريباً لقيم الإنسان ومثله. وبنظرة سريعة إلى الأعوام القليلة الماضية، ومقارنة وضع وظاهرة الحجاب قبل انتشار الفضائيات والإنترنت بشكل واسع، وبين اليوم، فقد أصبح الشارع في بلدنا اليوم يحاكي شوارع المكسيك وهوليود، وهذا ما يضاعف مسؤوليتنا، ويعقّد مهمة التربية، ويجعلنا أكثر حاجة لتقديم إعلام مسؤول جذّاب وهادف، يستطيع أن يؤمّن بديلاً ولو متواضعاً عن ذلك الإعلام المنحط والمتفلت، الذي يخاطب الغرائز لا العقول.
3- الزوج الصالح: تأكيد الإسلام على حسن خلق ودين الزوج أمر مهم لضمان انتقال الفتاة إلى بيئة سليمة، تساعدها على التمسك بقيمها، التي تلقتها في بيتها ومدرستها.
وأخيراً: إن وعلى الفتاة أن تعي حقيقة وجودها، وحكمة خلقها، ومآل أمرها، وإيمانها بكون التكاليف الإلهية تشريفاً للإنسان، وهي السبيل الوحيد لوصوله إلى الكمال والسعادة. وهذا الأمر يحتاج إلى بناء علاقة قوية وطيدة باللَّه تعالى، تحتاج الفتاة لإيجادها إلى الوعي والحب والإخلاص، حتى يحضر في وجدانها كون الدنيا دار ممر لا مقر، وأن السعادة الحقيقية هي السعادة في الدار الأبدية، التي لا يزول نعيمها، ولا ينقضي.
(*) باحثة إسلامية.
(1) الإمام علي، نهج البلاغة، ط1، دار التعارف، بيروت، 1990، ص421.
(2) "ما عبد اللَّه بشيء أفضل من عفة بطن وفرج"، الكافي، ج2، ص79.
(3) الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ص103.
(4) الطوسي، الأمالي، ص518.