رئيس التحرير
دائماً عليك وأنت تعامل الناس أن تحسب ألف حساب لألف رقيب وعتيد يلاحقونك كما الصحافيون ويتابعون نشاطاتك، حتّى إذا ما وقعت فيما يشبه الورطة سلقوك بألسنة حداد ونشروا غسيلك على حبل ثرثراتهم، ذلك أنّ الكثير من بني البشر يُحبّون أن يُعلّقوا على أيّ حادثة لا لشيء إلاّ لهواية الجدل واستهلاك الكلام استهلاكاً يميت القلب، وهم يرغبون ويهوون مراقبة كلّ من تقع عليه أعينهم وكأن المراقبة وظيفتهم التي خلقهم الله لأجلها، وبعدها ما أكثر الكلمات التي تضجّ من أصحابها لكثرة اجترارها ولوكها، ولو أنّ المرء منّا يدفع ثمناً لكلماته لخفّت استعمالاتها، مع أنّ المكالمات الهاتفية المكلفة وغير المفيدة كثيرة لا يُستهان بها، وكأن ألسنتنا ستشكونا يوم القيامة إذا لم نجرِ لعضلاتها دوماً عملية رياضة.
ألا يلاحظ – أخي الكريم – أنّ مريض الثرثرة حينما يستولي على صاحبه يُفقده الحكمة وبالتالي لا يطمئن مستمعو الثرثار أنّ ما يُصغون إليه هو نافع لهم، أذكر في هذا المجال أشخاصاً يحيطون أنفسهم بهالة الفكر والثقافة التي تجعل منهم مكابرين يُقحمون أنفسهم في أمور ليست من اختصاصاتهم إلاّ أنّهم يُشعرونك أنّهم أله لأيّ علم يُطرح أو فكر يُثار، فإذا ما طُرحت مسألة فلسفية عجز عنها الفلاسفة أنفسهم تصدّوا لها واثقين كمن ينزل إلى ساحة المعركة وهو مطمئن للنصر والغلبة، ولو أُثيرت المسائل الفقهية التي يحتاط بها الفقهاء الكبار فيكون جوابهم: الأحوط وعلى الأحوط والأقوى .. إلاّ أنّ المكابرين يرسلون الفتاوى المرتجلة إرسال المسلّمات، وهذه العلوم وغيرها لا يمكن أن تُؤتى من خلال فوضوية عشوائية كما هي عنتريات الكذاب الأشرّ الذي يقتل ويدمّر ويهزم الجمع بلسانه وهو مستريح بينما يحلّق خياله في عالم أرحب، فالذي يملك هواية الثرثرة وهو يتحدّث عن كلّ شيء. ولسانه لا يأبى من شيء يتحوّل إلى ممتطٍ لفرسٍ جموح لا يملك زمام قيادته فيكون محكوماً له ومقوداً له، مع أنّ اللسان الأخطر يرديه في مهالك شتّى ليس فقط وحده، وإنما يهلك كلّ المتعلّقين به ويرميهم في مزالق عديدة، ولا نبالغ إذا قلنا أنّ الإنسان يحمل في فمه ما يشبه المنجل (وهل يكب الناس على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم) ويا ليت الأمر يقتصر على حصاد الزرع، بل يتحوّل إلى ما يشبه المجزرة والمذبحة، فالكلمة غير المسؤولة التي تُقال، ربما تقتل فرداً وتدمّر مجموعة وربّما تحوّلت الكلمة التي تزرع الشكوك والافتراءات إلى ما هو أفعل من الرصاص لأنّ الرصاصة تقتل إذا ما توافرت شروط القتل شخصاً وربّما تجرحه، لكنّ الكلمة حينما تُطلق (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) فلا يعلم مدى تأثيرها إلاّ الله سبحانه.
وهي أيضاً كمن يلعب في أزرار إطلاق الصواريخ أو لنقل القنابل النووية.
أمام هذا حري بنا أن ندقّق في كلماتنا قبل التفوه بها، وأن لا نتسرّع في أحكامنا القضائية كما نتسرع في غيرها، وجدير بنا أن نفرمل ألسنتنا ونعودها على الكلمات التي تشبه الشجرة الطيبة لا الخبيثة، ولنتذكر حكمة الأمير علي بن أبي طالب عليه السلام القائلة (لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف) ومن خلال النتيجة (لسقط الاختلاف) ندرك أنّ سبب الاختلافات الكثيرة هي من وراء الأضاليل التي ينشرها من لا يعلم، ويدرّسها ويمعن في تكريسها من عاقر الجهل فاستأنس به صديقاً حبيباً في جلسة سمر شيطانية تخرّج الجاهلين تحت غطاء التوعية وتُطلق أتباع الباطل تحت ستار الحقّ فأعاننا المولى وإياكم.
والسلام