في كلّ حال من الأحوال الصلاتيّة، وكلّ فعل من أفعالها، لا بدّ للعبد من القيام به، وهو من آداب العبوديّة، أمّا العبادة التي خلت عن اللذّة والحلاوة، فهي عبادة بلا روح، ولا يستفيد القلب منها. فيا أيّها العزيز، آنس قلبك بآداب العبوديّة، وأذق ذائقة الروح حلاوة الذكر.
* مراتب القراءة في الصلاة
اعلم، أنّ للقراءة في هذا السفر الروحانيّ والمعراج الإلهيّ مراتب ومدارج نكتفي بذكر بعضها:
1- المرتبة الأولى: حُسن التلفّظ: ألّا يشتغل القارئ إلّا بتجويد القراءة وتحسين العبارة، ويكون همّه التلفّظ بهذه الكلمات فقط وتصحيح مخارج الحروف حتّى يأتي بتكليف، ويسقط عنه أمر.
ويتّفق لهذه الطائفة أحياناً أنّ ألسنتهم مشغولة بذكر الحقّ، وقلوبهم عنه عارية بريئة، ومتعلّقة بالكثرات الدنيويّة والمشاغل الملكيّة. وهذه الطائفة داخلة في الصلاة بحسب الصورة، ولكنّهم بحسب الباطن والحقيقة مشغولون بالدنيا ومآربها والشهوات الدنيويّة. ويتّفق أحياناً، أنّ قلوبهم أيضاً مشغولة بالتفكّر في تصحيح صورة الصلاة. ففي هذه الصورة قد دخلوا في صورة الصلاة بحسب القلب واللّسان، وهذه الصورة منهم مقبولةٌ ومرضيّة.
2- المرتبة الثانية: الذكر لساناً وقلباً: هم الذين لا يقتنعون بحدّ المرتبة الأولى، بل يرون الصلاة وسيلةً لتذكّر الحقّ، ويعدّون القراءة تحميداً وثناءً على الحقّ. ولهذه الطائفة مراتب كثيرة يطول ذكرها، ولعلّه أُشير إلى هذه الطائفة في الحديث القدسيّ الشريف: "قسّمتُ الصلاة بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الله: ذكرني عبدي، وإذا قال: الحمد لله، يقول الله: حمدني عبدي وأثنى عليّ. وإذا قال: الرحمن الرحيم، يقول الله: عظّمني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، يقول الله: مجّدني عبدي، [وفي رواية فوّض إليَّ عبدي]، وإذا قال: إيّاك نعبد وإياك نستعين، يقول الله: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"(1). وحيث إنّ الصلاة قد قُسّمت بحسب هذا الحديث الشريف بين الحقّ والعبد، فلا بدّ للعبد أن يقوم بحقّ المولى إلى حيث حقّه، ويقوم بأدب العبوديّة الذي ذكره هذا الحديث حتّى يفيض الحقّ تعالى عليه باللطائف الربوبيّة، كما يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (البقرة: 40).
* أركان العبوديّة حال القراءة
أقام الحقّ تعالى آداب العبودية في القراءة على أربعة أركان:
1- التذكّر: لا بدّ أن يحصل هذا التذكّر من بداية قوله: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فينظر العبد السالك إلى جميع دار التحقّق بالنظر الأسمى، ويُعوّد القلب أن يكون طالباً للحقّ ومحبّاً له. ويحصل هذا المقام من الخلوة مع الحقّ، وشدّة التذكّر والتفكّر في الشؤون الإلهيّة، حتّى ينتهي إلى حدّ يكون قلب العبد حقّانيّاً، ولا يكون في جميع زوايا قلبه اسم سوى الحقّ.
2- التحميد: وهو في قول المصلّي: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة: 2).
اعلم، أنّ المصلّي إذا تحقّق بمقام الذكر، ورأى جميع ذرّات الكائنات أسماءً إلهيّة، وأخرج من قلبه جهة الاستقلال، ونظر إلى الموجودات في عوالم الغيب والشهود بعين الاستظلال (أي أنّ الموجودات آيات لله وظلال تشير إلى قدرته)، تحصل له مرتبة التحميد، ويعترف قلبه أنّ جميع المحامد من مختصّات الذات الأحديّة، وليست لسائر الموجودات فيها شراكة.
3- التعظيم: يحصل في ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة: 3). فإنّ العبد السالك إلى الله، إذا حصر المحمدة في ركن التحميد على الحقّ تعالى، وسلب الكمال والتحميد عن الكثرات الوجوديّة (المخلوقات)، يقرب من أفق الوحدة، وتُعمى بالتدريج عينه الناظرة للكثرة، وتتجلّى لقلبه الصورة الرحمانيّة التي هي بسط الوجود، والصورة الرحيميّة التي هي بسط كمال الوجود، فيحصل للقلب بواسطة التجلّي الكماليّ الهيبة الحاصلة من الجمال بتنزّل عظمة الحقّ في قلبه، وإذا تمكّنت هذه الحالة في قلبه ينتقل إلى الركن الرابع.
4- التقديس: الذي هو حقيقة التمجيد. وبعبارة أخرى: تفويض الأمر إلى الله، وهو رؤية مقام مالكيّة الحقّ وقاهريّته، وزوال غبار الكثرة، وظهور مالِكيّة بيت القلب والتصرّف فيه بلا مزاحمة الشيطان. ويصل العبد السالك في هذه الحالة إلى مقام الخلوة. ولا يكون بين العبد والحقّ حجاب، وتقع في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة: 5) تلك الخلوة الخاصّة ومجمع الأنس، ولهذا قال: "هذا بيني وبين عبدي". وإذا اشتملت العبد العناية الأزليّة وأفاق، يسأله الاستقامة في هذا المقام والتمكين في حضرته، بقوله: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾؛ ولهذا فُسّرت ﴿اهدِنَا﴾ بألزمنا وأدّبنا وثبّتنا، وهذا لأولئك الذين خرجوا من الحجاب ووصلوا إلى المطلوب الأزليّ. وأمّا أمثالنا نحن أهل الحجاب، فلا بدّ من أن نسأل الهداية من الحقّ تعالى بمعناها المعروف.
اللهمّ، أعطنا نصيباً من لذّة مناجاتك وحلاوة مخاطباتك، واجعلنا في زمرة الذاكرين والمنقطعين إلى عزّ قدسك، وهب لقلوبنا الميّتة حياة دائمة، واقطعها عمّن سواك، ووجّهها إليك، إنّك وليّ الفضل والإنعام.
(*) من كتاب الآداب المعنويّة للصلاة، المصباح الثاني – في ذكر نبذة من آداب القراءة في خصوص الصلاة، الفصل الأوّل – بتصرّف.
1- انظر: الفتوحات المكيّة، ابن عربي، ج 1، ص 111.