الشيخ إسماعيل حريري (*)
دلّت الروايات الشريفة على حرمة التصرّف بالمال قبل أداء الحقّ الشرعيّ لأهله، كما عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث قال: "لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخُمس شيئاً حتّى يصل إلينا حقّنا"(1).
وفي رواية أخرى قال: كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السلام يسأله الإذن في الخُمس، فكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، إنّ الله واسع كريم، ضمن على العمل الثواب، وعلى الضيق الهمّ، لا يحلّ مال إلّا من وجه أحلّه الله، إنّ الخُمس عوننا على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى أموالنا، (......) فلا تزووه عنّا، ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه، فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم، وتمحيص ذنوبكم، وما تمهدّون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي لله بما عهد إليه، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب، والسلام"(2).
تُبيّن الروايات الشريفة أهميّة أداء حقّ الخُمس، وبالتالي فإنّ تعطيل هذا الفرض، وأكل هذا الحقّ، يُعدّ من مصاديق المال الحرام.
* الخُمس حقّ الله ورسوله
﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الأنفال: 41).
لا يخفى على أهل الإيمان أنّ أداء الخُمس من الواجبات الدينيّة الهامّة التي وردت في الشريعة الإسلاميّة. وقد امتاز مذهب الإماميّة تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام بأنّ الخُمس لا يختصّ بغنائم الحرب فقط، بل يشمل أموراً عدّة، وبشروط مقرّرة شرعاً، منها: المعادن المستخرجة من الأرض، وما يخرج بالغوص، والكنز، والمال الحلال المختلط بالحرام، وما يسمّى بفاضل المؤونة، والأخير هو الأكثر ابتلاءً بين الناس. والمقصود به بشكل عامّ ما يستفيده الإنسان من أرباح وفوائد تبقى إلى سنة من حين الشروع في التكسّب.
هذا، مع الخلاف الفقهيّ حول ما إذا كان الخُمس مختصّاً بفوائد التكسّب فقط أم أنّه يشمل كلّ فائدة، كالهديّة والهبة والجائزة ونحو ذلك، إلّا ما دلّ الدليل على استثنائه كالإرث المحتسب ومهر الزوجة مثلاً.
* مَن يستفيد من الخُمس؟
وأمّا التصرّف في مال الخُمس والاستفادة منه، فيتّضح من العناوين الآتية:
1- تقسيم الخُمس: تُبيّن الآية الكريمة أنّ الخُمس ينقسم إلى ستّة أقسام، ويُعبَّر عنها بالأسهم الستّة، وهي: سهم الله، سهم رسول الله، سهم ذي القربى، سهم اليتامى، سهم المساكين، وسهم ابن السبيل.
وقد جمعها الفقهاء تحت عنوانَين: عنوان سهم الإمام لخصوص الأسهم الثلاثة الأولى، وعنوان سهم السادة الهاشميّين للأسهم الثلاثة الأخرى.
والمقصود بالسادة الهاشميّين من ينتسب من هذه العناوين الثلاثة من جهة أبيه إلى "هاشم"، وهو الجدّ الأكبر للهاشميّين، وأبرزهم من ينتسب إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام ويعبّر عنه بـ"السيّد".
2- موارد صرف الخُمس: يتّفق الفقهاء على أنّ سهم الإمام يصرف في المصالح العامّة للمسلمين، ومنها دعم الحوزات الدينيّة والمشاريع التبليغيّة الدينيّة التي فيها ترويج للدين الحنيف، فضلاً عن سدّ حاجات الفقراء والمحتاجين.
وإنّ سهم السادة يُصرف في الطوائف الثلاثة من بني هاشم، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز صرفه في غيرهم، كما في سهم الإمام، بناءً على أنّ الخُمس قد ثبت لمنصب الإمامة لا لشخص الإمام. والفقيه، هو وليّ أمر الخُمس في غيبة الإمام المعصوم عليه السلام، فيعود إليه أمر الصرف وموارد الصرف في كِلا السهمَين.
3- التصرّف في مال الخُمس: هل يجوز لكلّ أحد أن يتّصرف في الخُمس؟
سؤال يُطرح كثيراً، وقد يرى بعض الناس أنّه يحقّ لدافع الخُمس أن يبادر من تلقاء نفسه ويتصرّف في الخُمس بدفعه في مورده الشرعيّ مباشرة. والحال أنّ جواز التصرّف وعدم جوازه مرتبط برأي الفقيه مرجع التقليد للمكلّف. فقد اتّفق الفقهاء على اشتراط صرف سهم الإمام بإذن وليّ أمر الخُمس باعتباره نائب الإمام المعصوم عليه السلام في ذلك، ولو كان الصرف في مورده الشرعيّ جزماً.
وأمّا سهم السادة، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز صرفه دون الرجوع إلى الحاكم الشرعيّ، وبعض آخر اعتبر الإذن كما في سهم الإمام تماماً، باعتبار أنّ الخُمس قد ثبت لمنصب الإمامة، فيكون للإمام أن يضعه حيث يرى المصلحة في ذلك، بلا فرق بين السهمَين، وهذا الحقّ ثابت لنائبه في زمن الغيبة.
وبناءً عليه، لا يجوز للمكلّف أن يتصرّف في الخُمس إلّا طبقاً لفتوى الفقيه الذي يقلّده، وإلّا كان متعدّياً ولا تبرأ ذمّته بذلك.
* فلسفة الخُمس
وهنا، ينبغي الالتفات إلى أمور:
1- الخُمس حقّ وفريضة: إنّ الخُمس حقّ فرضه الله لأهل البيت النبويّ عليهم السلام تعويضاً عمّا حرّمه عليهم من الزكاة، كما في قول الصادق عليه السلام: "إنّ الله لا إله إلّا هو لمّا حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخُمس، فالصدقة علينا حرام، والخُمس لنا فريضة، والكرامة لنا حلال"(3).
ولذا، كان أمر الخُمس في زمن حضور الإمام المعصوم عليه السلام بيده هو وأمره راجع إليه، وبعد غيبته يكون بيد نائبه وهو الفقيه الجامع للشرائط.
2- سدّ الحاجات العامّة: يمكن أن يقال إنّ فلسفة الخُمس في الإسلام هي سدّ الحاجات العامّة (كما في سهم الإمام)، والخاصّة (كما في سهم السادة) للمسلمين والمؤمنين على التفصيل المذكور آنفاً، ولا سيّما في زمن الغيبة الكبرى للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهذا يعني أنّ الله تعالى أراد للناس أن يشاركوا في سدّ تلك الحاجات من خلال إخراج نسبة الخُمس من أموالهم التي استفادوها في حياتهم، وهذا يصلح أن يكون نمطاً من التكافل الاجتماعيّ بين الناس، ولو صُبغ بصبغة الوجوب الشرعيّ لمصلحة يراها المشرّع الحكيم سبحانه وتعالى.
3- تطهير النفس والمال: إنّ من يلتزم من المؤمنين بدفع الخُمس وإنفاقه في موارده المقرّرة شرعاً، مع مراعاة الإذن الشرعيّ بذلك، يكون قد جمع بين الأمرَين الأوّلين، حيث أدّى الحقّ الشرعيّ لأهل البيت عليهم السلام، وشارك في سدّ الحاجات لأهلها من المؤمنين، كما يكون بذلك قد طهّر نفسه وماله، فقد ورد في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّي لآخذ من أحدكم الدرهم وإنّي لمن أكثر أهل المدينة مالاً، ما أريد بذلك إلّا أن تطّهرّوا"(4).
4- تجاوز اختبار المال: لا شكّ في أنّ هذا الالتزام من المكلّف يعطيه دعماً روحيّاً عالياً؛ لأنّ أداء الواجب الشرعيّ الماليّ، خصوصاً أنّ المال عزيزٌ على نفس صاحبه، من المهمّات التي قد يتردّد بأدائها الكثير من الناس، كما إنّ هذا الالتزام يشعره بالرضى النفسيّ وقربه أكثر من الدين وأهله.
* خطورة حبس الخُمس
أفتى الفقهاء بوجوب المبادرة إلى دفع الخُمس لمن وجب عليه، مراعياً الإذن الشرعيّ في ذلك بالتفصيل الذي ذكرناه آنفاً. أمّا من حبسه وأكله بالباطل، نجد أن الروايات الشريفة صرّحت بتحذير شديد اللهجة عنه، منها:
1- الوقوع في الحرمة: لا يجوز لمن وجب عليه الخُمس ولم يؤدّه لأصحابه ولم يصرفه في محلّه مع الإذن الشرعيّ، فضلاً عمّا لو صرفه بدون الإذن. وقد ورد الذمّ والتقريع لمن يفعل ذلك كما في المكاتبة المذكورة آنفاً عن الإمام الرضا عليه السلام ففيها الذمّ لمن يطلب الإذن في الخُمس، فكيف بمن يحبسه أو يأكله بدون إذن؟
2- خلاف مودّة أهل البيت عليهم السلام: عن محمّد بن زيد، قال: قدم قوم من خراسان على أبي الحسن الرضا عليه السلام فسألوه أن يجعلهم في حلٍّ من الخُمس، فقال: "ما أمحل(5) هذا! تمحضونا المودّة بألسنتكم وتزوون عنّا حقّاً جعله الله لنا وجعلنا له، لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل لأحد منكم في حلّ"(6).
3- اللّعنة على لسان كلّ نبيّ: ومنها ما في جواب المسائل الواردة في السفير الثاني عن صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف: "وأمّا ما سألت عنه من أمر من يستحلّ ما في يده من أموالنا، ويتصرّف فيه تصرّفه في ماله من غير أمرنا، فمن فعل ذلك فهو ملعونٌ ونحن خصماؤه، فقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: المستحلّ من عترتي ما حرّم الله ملعون على لساني ولسان كلّ نبيّ مجاب، فمن ظلمنا كان من جملة الظالمين لنا، وكانت لعنة الله عليه لقوله عزّ وجلّ: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (هود: 18)"(7).
4- خسارة الكمالات المعنويّة: من ناحية أخرى معنويّة، فإنّ كلّ ما ذكر عن الآثار الإيجابيّة لأداء الخُمس، هو خسارة لكلّ ذلك عند عدم أدائه وحبسه عن أهله، وفيه ترك الواجب الشرعيّ الذي يعني بعداً عن الله تعالى، وخسارة الدعم المعنويّ والروحيّ، وتراجع الارتباط بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، بل حابس الخُمس حينئذٍ هو من سرّاق الحقّ الشرعيّ.
5- نقص في سدّ الحاجات العامّة: كما يؤدّي الإخلال بهذا الواجب إلى الإخلال بسدّ الحاجات العامّة والخاصّة التي تكفّل بها بذل هذا المال الشرعيّ.
وهكذا، فالخُمس ليس بالمسألة العابرة، بل هو إحدى الفرائض التي أمرنا الله سبحانه بأدائها، لانعكاساتها الدنيويّة والأخرويّة، على الفرد والمجتمع معاً.
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالميّة – لبنان.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 9، باب 1 من أبواب ما يجب فيه الخُمس، ح 4.
2- (م. ن.)، باب 3، من أبواب الأنفال، ح 3.
3-(م. ن.)، ج 9، باب 1 من أبواب ما يجب فيه الخُمس، ح 2.
4- (م. ن.)، ح 3.
5-المحل: الكيد والمكر والحيلة.
6-وسائل الشيعة، (م.س)، ج9، باب وجوب إيصال حصّة الإمام من الخمس إليه مع الإمكان، ح3.
7-(م. ن.)، ح 6.