الشيخ يوسف كمال الدين
إنّ أكلَ المالِ الحرام من القضايا المهمّة التي ورد التحذير منها في الشريعة الغرّاء، وذُكرت حولها آثار سلبيّة، على مستوى الدنيا والآخرة.
ولأكل المال الحرام مصاديق متعدّدة، منها أكل مال اليتيم بغير حقّ، وأكل الإرث بالباطل. لذلك، سنبيّن في هذا المقال الحالتَين.
أوّلاً: أكل مال اليتيم
توعّد الله سبحانه آكل مال اليتيم بشديد العقاب وأليم النَّكال، حيث تهدّد الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ (النساء: 10).
ويلفتنا في الآية هذا التناسب بين الذنب الذي هو أكل مال اليتيم ظلماً وعدواناً في الدنيا، مع عقابه في الآخرة، وهو الكريمة: ﴿يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾، ومبالغة في عقابهم المناسب لقبيح فعالهم، تضيف الكريمة: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾.
1- من هو اليتيم؟
نظراً إلى خطورة أكل مال اليتيم وشناعته، لا بدّ لنا أن نشخّص مورد انطباق هذه الآية لكي نجتنبه، وأوّل ما يجب بيانه في المقام توضيح المقصود من اليتيم. اليتمُ -لغةً-: "انقطاع الصبيّ عن أبيه قبل بلوغه"(1).
وفي الاصطلاح الفقهيّ، اليتيم هو مَن فقد أباه -دون الأمّ- قبل البلوغ، لا بعده.
وثمّةَ سؤالٌ يُطرحُ في المقام، وهو: لماذا هذا التركيز على مال اليتيم؟
والجواب: إنّ اليتيم بفقده لأبيه، يكون قد فقد السند والكفيل والمعين، ومن هنا تأتي الوصيّة الشرعيّة والأخلاقيّة برجحان رعايته وكفالته من جهة، والتحذير من إهماله، وأكل ماله من جهة ثانية.
أ- العناية والرعاية: ورد في القرآن الكريم: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ (الضحى: 9).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتّقى الله عزّ وجلّ"(2) وأشار بـ"هاتين" بالسبّابة والوسطى.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "اللهَ اللهَ في الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من عال يتيماً حتّى يستغني، أوجب الله عزّ وجلّ له بذلك الجنّة، كما أوجب لآكل مال اليتيم النار)"(3).
ب- إهماله وأكل ماله: مضافاً الى الآية السالفة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾، ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يُبعث ناسٌ من قبورهم يوم القيامة تأجّج أفواههم ناراً، فقيل له: يا رسول الله! من هؤلاء؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الذين يأكلون أموال اليتامى"(4). وعن الإمام الصادق عليه السلام -لمّا سُئل عن الكبائر من الذنوب-: "منها أكل مال اليتيم ظلماً"(5).
2- حكمة تحريم أكل ماله
وعن الحكمة من هذا التحريم، ورد عن الإمام عليّ الرضا عليه السلام: "حُرّم أكلُ مال اليتيم ظلماً لعلل كثيرة من وجوه الفساد: أوّل ذلك إذا أكل مال اليتيم ظلماً فقد أعان على قتله؛ إذ اليتيم غير مستغن، ولا محتمل لنفسه، ولا قائم بشأنه، ولا له مَن يقوم عليه ويكفيه كقيام وَالدِين، فإذا أكل ماله فكأنّه قد قتله وصيّره إلى الفقر والفاقة، مع ما خوَّف الله عزّ وجلّ من العقوبة في قوله: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّه﴾ (النساء: 9)... مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره إذا أدرك، ووقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتّى يتفانوا"(6).
3- بغير حقّ
لا بدّ في المقام من توضيح أمرين:
1- إنّ قيد (ظلماً) الذي ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا﴾ وبعض الروايات، يؤكّد أنّ المنهيّ عنه وما حُذّر منه، إنّما هو أكل مال اليتيم بغير حقّ، أمّا إذا كان من قبيل أخذ أجرة المثل للقيام ببعض أموره، أو أن يأكل مَن يخالطهم ويعدّ لهم الطعام معهم ومن مالهم بالمقدار المتعارف فلا ضير فيه، ولا يعدّ ذلك من باب أكل مالهم ظلماً.
2- إنّ التعبير بأكل مال اليتيم لا يقتصر على الاستيلاء على خصوص ما كان من الطعام والشراب، بل يصدق على وضع اليد والهيمنة على أيّ شيء من أموالهم بغير حقّ، وبعض الآيات عبّرت بـ﴿وَلَا تَقْرَبُوا﴾ في مقام النهي، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ (الإسراء: 34).
4- إيّاك وظلمه
ممّا تقدّم، يظهر لنا جليّاً فظاعة الإقدام على أكل أموال اليتامى بغير حقّ. ولا بدّ أن يكون ما أسلفنا رادعاً لكل من تُسوّل له نفسه أكل مالهم، وليتقِّ اللهَ ربّه فإنّه العليم الخبير، والناصر لهذا اليتيم الضعيف، وقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام: "إيّاك وظلمَ من لا يجدُ عليك ناصراً إلّا الله"(7).
وأكثر مَن يُبتلى بمال اليتيم بعضُ أقربائه، كأمّه وعمّه وخاله و..، حيث يموت الأب فيتصدّى بعض هؤلاء للتصرّف في أمواله التي ورثها عن أبيه مثلاً، وهنا يكون الامتحان الكبير لهم في كيفيّة التعامل مع هذا المال، إمّا بما يرضي الله تعالى ويوجب أجرَه وثوابه، وإمّا بما يرضي الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء.
ومن العوامل المساعدة لبعض أقرباء اليتيم على أكل ماله بغير حقّ، عدمُ اطّلاع الآخرين على واقع تصرّفاتهم؛ لأنّهم ممّن يُظنّ بحرصهم عليه واهتمامهم به، ولكنّ الالتفات إلى الرقابة الإلهيّة التي لا تخفى عليها خافية في الأرض ولا في السماء، وحُسن الرعاية لليتيم، لا بدّ أن تكون هي الحاكمة على التصرّف بماله، بما ينسجم مع تحصيل مرضاة الله، والابتعاد عن سخطه عزّ وجلّ.
ثانياً: أكل الإرث بالباطل
ليس بعيداً عن سياق الحديث عن أكل مال اليتيم ما يملكه الإنسان بالباطل، بإرثٍ وغيره، فثمّة بعض الحالات التي يُؤكل فيها مال الآخرين بالباطل، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ (النساء: 29).
ومن أمثلة ذلك:
1- حرمان الابنة من ميراثها: ما يحصل في بعض الأحيان والمجتمعات من هيمنة الأبناء الذكور على إرث أخواتهنّ، بحجّة انتقال الأخت إلى بيت زوجها الذي يقوم بالنفقة عليها، ومن باب ضعفها غالباً وعدم قدرتها على المواجهة، أو من باب شفقتها وعدم رغبتها في إثارة مثل هذه الخلافات، بما يسيء إلى سمعة إخوتها.
2- هيمنة أخ على ميراث أخيه: ومثل هذا المورد، هيمنة الأخ الكبير على مال أخيه الصغير الذي يملكه بالإرث أو بغيره، وكذلك هيمنة الأخ القويّ على أخيه الضعيف، هو حرام وباطل.
3- هيمنة العمّ: قد يصادر العمّ القويّ إرثَ ابنِ أخيه الصغير أو الضعيف، مع العلم أنّ العمّ لا يرث أخاه مع وجود ابنٍ/ابنةٍ له؛ لأنّ أبناء الميت هم من المرتبة الأولى في باب الإرث، التي تمنع إخوة الميت من الميراث؛ لأنّهم من المرتبة الثانية.
* عواقب وخيمة
ثمّة المزيد من النماذج في أكل الإرث بالباطل التي لن نذكرها، وإنّما نريد أن ننبّه الغافلين إلى خطورة هذا الفعل الشنيع، ونحذّر المتجرّئين على هذا العمل القبيح، الذي تترتّب عليه آثار أخرويّة وخيمة، وآثار دنيويّة واجتماعيّة، منها:
1- يمنع أكل المال الحرام إجابة الدعاء.
2- يتجرّأ مرتكبُه على انتهاك الحرمات.
3- تفكّك عرى المودّة بين الأرحام، عندما يقدم بعض الورثة على سلب حقّ الآخرين، فتُستبدل المودّة بالخصومة بينهم، وتتحوّل الصلة إلى قطيعة، فيقطعون ما أمرَ الله به أن يوصَل.
والمؤسف أيضاً، أنّ هذه الخصومات والنزاعات يتوارثها الأبناء من الآباء، في نهاية المطاف يرحل الجميع عن هذه الدنيا الفانية ويبقى ما اختلفوا عليه وتخاصموا لأجله.
4- أمّا أخرويّاً، فيقف الغاصب لمال اليتيم أو إرث غيره أمام عدالة الله سبحانه من دون حُجّة ولا ناصر، ولئن قام في الدنيا بتزوير بعض الوثائق ليأكل مال غيره ظُلماً وعدواناً، فإنّه لا مجال له لفعل ذلك بين يدي ربّه تعالى؛ لأنّ كلّ ما اجترحه مدوّن في سجلّ أعماله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، كما قال عزّ وجلّ: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف: 49).
نسأل الله سبحانه أن يقينا شرور أنفسنا، وأن يجنّبنا حبّ الدنيا والتعلّق بزخارفها، وأن يرزقنا القناعة والرضى بما قسم لنا، وأن يختم لنا بالحسنى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
1- مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهانيّ، مادّة: يتم.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 3708.
3- الكافي، الكليني، ج 7، ص 51.
4-ميزان الحكمة، (م. س.)، ص 3709.
5-(م. ن.).
6-علل الشرائع، الصدوق، ج 2، ص 480-481.
7-تحف العقول، الحرّانيّ، ص 246.