السيّد حسين أمين السيّد
تبيّن الشرائع الدينيّة للناس كيفيّة السيطرة على طغيان المال وأهله وخروجه عن الحقّ، وتحدّد الضوابط المنظّمة لعمليّة التبادل الحلال. وهذا ما ظهر جليّاً مع نبيّ الله عيسى عليه السلام ومواجهته لتجّار الهيكل من اليهود، ومحاربته الربا في المال، حتّى جاء الإسلام بشريعته الخاتمة، وحدّد بكلّ وضوح أحكام المال؛ فكان المال الحلال والمال الحرام.
* المال الحلال والحرام في القرآن الكريم
لعلّ ما يلفت نظر أهل القرآن كثرة ذكره لموضوع المال، وشدّة بيانه وتمييزه المال الحلال عن ذاك الحرام، والتشدّد والتهديد والوعيد لمن خرج عن هذه الأحكام؛ وذلك لأنّ المجتمع الإيمانيّ، لا بل الإنسانيّ عموماً، لا يقوم إلّا بعد انتظام عمليّة تداول المال بين أفراده بشكلٍ سليم، تُضمن فيه حقوق الأفراد، ويُمنع الظلم والاستغلال. وسنعرض بعض الشواهد القرآنيّة:
أوّلاً: المال الحلال:
يُقصد به كلّ مال حصّله الإنسان طبق الضوابط الشرعيّة التي أمر بها الله سبحانه، وورد بيانها في القرآن والروايات، وصاغها الفقهاء على صورة فتاوى عمليّة، يرجع المكلّف إليها لمعرفة حكم ماله. ومن مصاديق المال الحلال:
1- الأكل الحلال: فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ (طه: 81). من لطيف التعبير القرآنيّ أنّه عندما يتحدّث عن المال، فإنّه يستعمل تعبير (الأكل) بمختلف مشتقّاته، ولعلّه إشارة إلى أنّ المال المطلوب منه ما يؤمّن به الإنسان بقاءه كالأكل، فلا معنى لتكديسه وجمعه، حتّى يصبح خلاف الغرض منه، وهذا ما يسبّب الكثير من المفاسد للنظام الماليّ في الإسلام. ومن اللافت أيضاً، تعبيره عن المال الحلال بالطيّبات تمييزاً له عن الخبائث. ولا يفوتنا أنّ عند ذكره المال الحلال مباشرة، يتبعه بتهديد ووعيد عند الانحراف؛ أنّ الإنسان إذا شعر بقوّة، استغنى وطغى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 6- 7).
2- الكسب الحلال: يقول تعالى: ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ (المؤمنون: 51). فالله سبحانه يبيّن أنّ المال الطيّب هو الذي يستفيد منه الإنسان لحاجاته، ويحوّله إلى عمل صالح يقصد به وجه الله تعالى، فلا تشغله حاجاته فيقع في الترف والبذخ فينسى الآخرة، فالمال باب لكسب الدرجات وبلوغ المقامات عند الله تعالى.
3- الصدقة: كلّنا نعلم الروايات الكثيرة الواردة في الصدقة وعظيم شأنها، خصوصاً عند الحديث عن الصدقة الجارية، وسعة بابها، فبناء المساجد والحسينيّات والمدارس وما ينفع الناس بشكل دائم، يعدّ من الصدقات التي لا ينقطع أثرها وأجرها، ومن أشكالها:
أ- الصلة الماليّة للأرحام.
ب- صلة الأبوين وتأمين حاجاتهما الماليّة باعتبار أنّ النفقة عليهما واجبة.
ج- التوسعة على عياله وأهل بيته.
د- إكرام الضيف.
هـ- عون الضعفاء.
و- رعاية الفقراء والمساكين.
ثانياً: المال الحرام:
وهو ما يقابل المال الحلال، وهو كلّ مال حصّله الإنسان على خلاف الضوابط الشرعيّة التي أمر بها الله سبحانه، وورد بيانها في القرآن والروايات، وصاغها الفقهاء على صورة فتاوى عمليّة يرجع إليها المكلّف لمعرفة حكم ماله.
ومصيبة المصائب كثرة تنامي الكسب الحرام في المجتمعات، مع الأسف، بسبب استسهال الناس له وعدم مبالاتهم، مع العلم أنّ آيات القرآن الكريم تضجّ وتصرخ بالنهي الشديد والتهديد والوعيد. ومن مصاديق المال الحرام:
1- السُّحت: بعض آيات القرآن الكريم تعبّر عن بعض المال الحرام بالسُّحت، كقوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ (المائدة: 42). ومع ذلك، يحبّ بعض الناس السُّحت؛ أي المكسب الحرام، كبيع المحرّمات من آلات قمار، وأجهزة يعلم أنّها ستُستعمل في الحرام، فتصبح المعاملة حراماً ومالها سُحتاً، أو كالذي يأخذ مالاً من مغنٍّ ومطرب، وهو يعلم أن مال الغناء سُحت.
2- الربا: يطغى الإنسان ويزداد عتوّاً وعناداً، فيتجرّأ على أشدّ المحرّمات في كسبه، حتّى أصبحت تلامس الظاهرة في مجتمعاتنا، إذ أصبحت مهنة المرابي مقبولة في بيئة المسلمين، وقطعاً لا نقصد البنوك تحديداً، ولكن ثمة بعض أصحاب رؤوس الأموال الذين يقرضون الناس المحتاجين، والذين ضاق عليهم الأمر، فيستغلّون ظروفهم ويقرضونهم المال بفائدة ربويّة عالية جدّاً، يعجزون عن سدادها، أو يستغرق سدادها مدّة طويلة، مع عجزهم عن سداد أصل الدين. وفي نهاية الأمر، يضغطون عليهم، ويهدّدونهم بأبشع الأساليب، حتّى يتنازلوا عن بيوتهم وممتلكاتهم أو ما أفنوا عمرهم في جمعه لعيالهم، وقد قال الله تعالى في حقّ هؤلاء: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275).
3- الرشوة: مثلاً؛ مَن يعمل في دائرة رسميّة أساسها خدمة الناس وإجراء معاملاتهم القانونيّة، فبدلاً من التقرّب إلى الله تعالى في خدمة عياله وتسهيل أمورهم، تراه مرجعاً في اجتراح العُقد التي لا تخطر على بال بشر، وباب الحلّ في مالٍ يبتزّه من صاحب الحاجة، عن طريق رشوة هي مال سُحت يأكله مع عياله المساكين. وعلى الرغم من تلطيفها بتسميات كالهديّة والرسوم الإضافيّة وبدل أتعاب و... إلّا أنّها تبقى هي الحرام بعينه. وهذا القرآن الكريم يخاطبك، فاستمع لما أوحى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 188).
* بما قدّمت يداك
لائحة الكسب الحرام تطول وتطول، فحريّ بنا أن نستيقظ، ونعلم أنّ العمر يمرّ مرّ السحاب، وأنّ القبر ينادي صاحبه كلّ يوم، ﴿إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ (طه: 15)، يوم يقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (الحج: 10)، والأصعب من ذلك: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ (مريم: 64).
عندها، وفي ذاك الموقف العظيم، ستقرأ كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، وسترى نفسك بين أشباهك: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾ (الحج: 2).