محمد القدسي
في الحلقة الماضية تحدثنا عن الأسفار الكثيرة والمضنية للشهيد الثاني في سبيل طلب العلم والتبحر فيه بحيث لم يدع نوعاً من العلم إلاّ وحصّله ولا عالماً مبرّزاً إلاّ واستفاد منه. في هذه الحلقة نتعرض إلى أهم آثاره العلمية وكيفية شهادته.
آثار الشهيد الثاني:
كوّن الشهيد مدرسة قائمة بذاتها لها خصائصها وميزاتها ووجهاتها الخاصّة بما ألف وأنتج في عالم التصنيف.
وأسفاره الكثيرة، وحضوره على أساتذة مختلفين، وقراءته عند علماء المذاهب الإسلامية ومطالعاته الطويلة في شتّى الكتب من سائر ألوان الثقافات الدارجة في ذلك العصر وصبره الزائد على الفحص في المصادر والمراجع العلمية.. كلّ هذه العوامل طبعت (مؤلفات الشهيد) بطابع الموضوعية في الدراسة، والعمق في الفكرة، والوضوح في التعبير والسلاسة في صياغة الألفاظ، والانسجام في الترتيب، والأناقة في العرض وحسن السليقة في التبويب والطرافة في التنظيم.
والذي يجلب النظر في ما كتبه الشهيد أنّه لم يخصّص كتاباته بطبقة خاصّة من الناس فبينما نرى أنّه يكتب موضوعاً علمياً بحتاً للعلماء المتخصّصين يكتب موضوعاً أخلاقياً بسيطاً للعامّة والذين ليس لديهم حظ وافر من العلم، وبينما يصنّف في الفقه الاستدلالي بمستوى كبار الفقهاء يؤلّف في المواضيع الإسلامية وغيرها لأبسط الناس.
وكان الشهيد كذلك يستوحي في بعض الأحيان من الظروف التي تكتنفه فيكتب كتاباً في الغيبة لأنّه يرى بعض الناس "يصرفون كثيراً من أوقاتهم ويتفكهون في مجالسهم ومحاوراتهم ويغرون نفوسهم بتناول أعراض إخوانهم من المؤمنين ونظرائهم من المسلمين، ولا يعدونه من السيئات ولا يحذرون معه من مؤاخذة جبار السموات".
* وإليك ثبتاً لبعض آثاره:
1- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: وهو شرح مزجي استدلالي مختصر خطا فيه (الشهيد الثاني) خطى (الشهيد الأول) في الاختصار والشمول والاستيعاب.
واحتل هذا الكتاب مكانة مرموقة بين الكتب الفقهية، فأقبل على درسه والاعتناء بشأنه العلماء منذ حين تأليفه ولم يزل حتّى الآن من الكتب الدراسية ذات الشأن في الجامعات الشيعية ويكفي في أهمية هذا الكتاب أنّه أكبّ على شرحه والتعليق عليه وتوضيح ما أبهم من عباراته وكشف غوامضه جماعة كبيرة من العلماء وقد ذكر الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه (الذريعة) ما يقرب من تسعين حاشية وشرح.
2- (روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان).
3- مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام.
4- تمهيد القواعد الأصولية والعربية.
5- حاشية الإرشاد.
6- منية المريد في آداب المفيد والمستفيد.
7- مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد.
8- كتاب الإجازات.
9- حقائق الإيمان.
10- الدراية وشرحها.
11- البداية في سبيل الهداية.
12- كتاب الرجال والنسب.
* كلمات العلماء فيه:
ملأت شهرة شيخنا الشهيد قدس سره الآفاق منذ أيامه الأولى حينما كان يتجوّل في البلدان الإسلامية للحضور على الأساتذة والعلماء والاستفادة من مجالس درسهم ومحافل بحثهم، وأخذ نجمه يزداد إضاءة و"إنارة" كلما ازداد في تلقّي العلوم من كبار الشيوخ في حينه، وهكذا تلألأ هذا النجم الوضّاء حتّى طبّق الآفاق شهرته وأقرّ له القريب والبعيد بسعة العلم والاجتهاد وهو بعد لم يتجاوز سنّه الثالثة والثلاثين، ونتيجة لهذه الشهرة الواسعة أخذت ألسنة الثناء تحيطه بهالة من القدسية والرفعة وتمدحه بشتّى العبارات وألوان الكلمات ومختلف الجمل.
- يقول ابن العودي:
"حاز من خصال الكمال محاسنها ومآثرها وتردّى من أصنافها بأنواع مفاخرها، كانت له نفس عليّة تزهو بها الجوانح والضلوع، وسجيّة سنية يفوح منها الفضل ويضوع، كان شيخ الأمة وفتاها، ومبدأ الفضائل ومنتهاها لم يصرف لحظة من عمره إلاّ في اكتساب فضيلة، ووزّع أوقاته على ما يعود نفعه في اليوم والليلة".
- وقال صاحب المقاييس:
"قصرت الأكارم عن استقصاء مزاياه وفضائله السنية، وحارت الأعاظم الأبّاء في مناقبه وفواضله العلية، الجامع في معارج الفضل والكمال والسعادة بين مراتب العلم والجلالة والكرامة والشهادة، المؤيّد المسدّد بلطف الله الخفي والجلي".
وقال الشيخ يوسف البحراني صاحب (الحدائق):
"وكان هذا الشيخ من أعيان هذه الطائفة ورؤسائها، وأعاظم فضلائها وثقاتها، عالم عامل، محقّق مدقّق، زاهد مجاهد، ومحاسنه أكثر من أن تحصى، وفضائله أزيد من أن تستعصى".
- وقال التفريشي في رجاله:
"وجه من وجوه هذه الطائفة وثقاتها، كثير الحفظ، نقي الكلام، له تلاميذ أجلاّء، وله كتب نفيسة".
- وقال العلاّمة الأميني قدس سره:
"من أكبر حسنات الدهر، وأغزر عيالم العلم، زين الدين والملّة، وشيخ الفقهاء الأجلّة".
* أسباب قتل الشهيد قدس سره:
تسربت الدعوة الشيعية إلى إيران منذ فتحت في حرب القادسية على يد المسلمين، وكانت هذه الدعوة تسير بخطى واسعة في أقطار إيران وتجد لها أرضاً خصبة لاحتضان هذه الدعوة وقبولها، وكانت خراسان من الدعائم القوية للخلافة العباسية، وساعدت على تقويض الحكم الأموي، ولكن خراسان لم تكن تدعو إلى العباسيين وتعمل لحسابهم بل سارت الدعوة هناك باسم (الرضا من آل محمد "ع") وإزاحة أعداء (أهل البيت عليهم السلام) وطبيعي أن لفظتين (آل محمد، وأهل البيت"عليه السلام") كانتا تستعملان في علي وأولاده الطاهرين عليهم السلام ولا تزال، فكانت صورة الدعوة إلى إزالة سلطان بين أميّة باسم هؤلاء الطاهرين لا غير، وازدادت النفوس الإيرانية ميلاً إلى أهل بيت العصمة وأخذت الدعوة الشيعية تلقى تشجيعاً بالغاً وإقبالاً هائلاً ممّا زاد عدد الشيعة هناك وتمركزهم.
ووصل التشيّع إلى أوج عزّه في إيران في أيام البويهيين، حيث كانوا يشجعون التشيع بكلّ إمكاناتهم الماديّة والمعنويّة، ويعنون عناية شديدة بالدعوة إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام وتشييد أركانه.
ولقد لقيت مدرسة (قم) و(الري) الفقهية الشيعية عناية كبيرة من قِبل البويهيين خاصّة حتّى أنّ بعض كبار المؤلفين كانوا يصدرون مؤلفاتهم باسم البويهيين، وبقي التشيع كذلك في إيران في القمّة في أدوار التاريخ والظروف المختلفة حتّى أيام الصفوية (الذين ينتسبون إلى آل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم) فجنّد هؤلاء كلّ ما كان في قدرتهم للذبّ عن حياض هذا المبدأ والسعي في انتشاره في سار الأقطار الإسلامية القريبة منهم والبعيدة.
والسمعة الحسنة التي أحرزها هؤلاء الملوك في العالم الإسلامي عامّة وفي العراق خاصّة أقضّت مضجع الخلافة العثمانية في قسطنطينية وأصبحت تتوجّس منهم خيفة وتحسب لكلّ حركة يقوم بها هؤلاء الملوك ألف حساب.
ففي الأقطار التي كانت تحت لواء العثمانيين كانت العيون منبثقة تخوفاً من كلّ حركة يمكن أن يكون هدفها قلب الحكم العثماني وتقويض عرش الخلافة المزيّفة التي كانوا يحكمون رقاب الناس باسمها.
ويلاحظ أنّ هذه المراقبة كانت على أشدّها في البلدان التي سبق وإن تشكّلت فيها دولة شيعية كحلب مثلاً التي كانت موطناً للحمدانيين.
وإذا لاحظنا ما مضى بدقّة نعرف سرّ الضغط الذي لقيه الشهيد الثاني عندما رجع من بعلبك إلى موطنه، إذ كان في بعلبك في مدرسة النووية شكّل حلقة كبيرة يحضرها العلماء وعشاق الفضيلة فيلقي عليهم الشيخ دروسه وعظاته وإرشاداته، ثم تعلو منزلته وترتفع حتى يرجع إليه الأنام ويصبح ملاذ الخاص والعام، يفتي كلّ فرقة بما يوافق مذهبها.
نعم لا تروق للظالمين هذه الحركة العلمية النشيطة في هذه المنطقة التي سبق وإن كانت منطقة يحكمها الشيعة، وربما تتدرّج حتّى ترجع إليهم.
فكانوا يرون وجوب وضع حدٍ لها النشاط وشلّ هذه الحركة بالسرعة الممكنة حتّى لا تتسرّب إلى نقاط أخرى، وقبل أن يستفحل الأمر فيصبح خارجاً عن قدرتهم، ولكن كيف الطريق للوصول إلى هذا الهدف ومن أين يبدأون وإلى أين سينتهون.
رأوا أنّ الحلّ الوحيد الذي يُنهي مخاوفهم من انقلابات هو قطع الرأس وبعده ينتهي كلّ شيء.
لهذه السياسة المزعومة والطائفية البغيضة، والخوف على الملك والسلطان وحفظ العرش الذي شيّدت أركانه بإزهاق الأرواح الطاهرة البريئة، لهذه الدعاوى المزيّفة ذهب الشهيد الثاني ضحية جهاده وجهوده في سبيل الإسلام والتشيّع.
ينقل (حسن بك روملو) في تاريخه الفارسي (أحسن التواريخ) نصاً يدلّ بكلّ وضوح أنّ الشهيد لم يقتل إلاّ لتخوّف السلطة القائمة من شخصيته الفذّة وإقبال الناس عليه وتدريسه الفقه الشيعي إلى جانب الآراء الفقهية الأخرى، "في سنة 965 في أواسط سلطنة الشاه طهماسب الصفوي استشهد حاوي المعقول والمنقول جامع الفروع والأصول الشيخ زين الدين العاملي، وكان السبب في شهادته أنّ جماعة من السنيين قالوا لرستم باشا (الوزير الأعظم للسلطان سليمان ملك الروم) إنّ الشيخ زين الدين يدعي الاجتهاد ويتردّد إليه كثير من علماء الشيعة ويقرأون عليه كتب الإمامية، وغرضهم بذلك إشاعة التشيع، فأرسل رستم باشا في طلب الشيخ زين الدين – وكان وقتئذٍ بمكة المعظّمة – فأخذوه من مكّة وذهبوا به إلى استنبول فقتلوه فيها من غير أن يعرضوه على السلطان سليمان".
وأكثر من وشى بالشهيد الثاني عند رستم باشا هو قاضي صيدا (معروف الشامي) لكثرة حقد هذا الأخير على الشهيد وحسده له من ذيوع علمه وارتفاع مكانته.
ولقد كان الشهيد قدس سره يتوقع هذه الخاتمة المشرّفة التي ختم بها حياته، وكان يحسب للموضع حسابه ويؤكّد لخواص مريديه وتلامذته أنّه مقتول لا محالة.
وبعد قتل الشهيد أُخذ رأسه إلى سلطان الروم، فأنكر قتله على قاتله وقال له: أمرتك أن تأتيني به حياً فقتلته وسعى السيد عبد الرحيم العباسي في قتل ذلك القاتل (للشهيد) فقتله السلطان.
هكذا قضى الشهيد حياته عالماً ومجاهداً وختمها بأشرف خاتمة بالشهادة في سبيل الله، وإن غالوا جسده فروحه حيّة ترفد العلماء والمجاهدين.
فسلام على تلك الروح الطاهرة التي جاهدت فأنارت وخلّفت تراثاً ضخماً فأضاءت، وسلام عليها ما دامت السماوات والأرض وتحيّات زاكيات ما بقي الليل والنهار.