الشيخ موسى خشّاب
سبعون ألفاً أصبحوا يعبدون الله تعالى، وأمسوا يعبدون العجل ويردّدون بأجمعهم: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾ (طه: 88). لقد جرت سنّة الله في ذلك المجتمع اليهودي: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2)؛ فافتتان المجتمع المؤمن هو سنّة إلهيّة جرت في الأوّلين وستجري في الآخرين: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ (العنكبوت: 3). لكن في كلّ فتنة ثمَّة فئة لا تُفتتن، ولا تحيد، بل تتحيّز إلى الحقِّ وتنصره... عنها نتحدّث.
* افتتان أهل الكوفة
وفي مشهد يشبه افتتان قوم موسى بعجل السامريّ، افتُتن المجتمع الكوفيّ، الذي كان قد أعلن الولاء للإمام الحسين عليه السلام، وأرسل زعماء العشائر الكتب إليه يناشدونه القدوم إليهم، فأرسل لهم عليه السلام ثقته مسلم بن عقيل، فبايعه جيش كبير حتّى غصّ بهم السوق والمسجد. وأشرقت شمس الصباح في الكوفة، وابن زياد محاصر في قصره مع ثلاثين رجلاً، وحلّ غروب ذلك اليوم، ولم يكن قد بقي مع مسلم سوى ثلاثين رجلاً لم يلبثوا أن تركوه على بُعد بضع خطوات من المسجد، فصار وحيداً عطشانَ لا يجد من يدلّه على الطريق!
* دور الفتنة
إنّ ما بعد الفتنة ليس كما قبلها؛ فالفتن تشبه أمواج البحر، ودورها تصفية المجتمع المؤمن من الشوائب، تماماً كما تلقي الأمواج الأوساخ خارج البحر: "ليغشينّ أمّتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوامٌ دينَهم بعرضٍ من الدنيا قليل"(1). والفتنة تُظهر الصادق من الكاذب: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 3)، وتكشف المؤمن وتفضح المنافق: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ (العنكبوت: 11)، وتميّز الخبيث من الطيب: ﴿مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).
وبالفتنة يُفتتن أناس وينجو آخرون، وقد ينجو بعضهم من فتنة ويُفتتنون بأخرى؛ فكثير من الذين كانوا مع الإمام عليّ عليه السلام في صفّين لم نجدهم في كربلاء، بل وجدناهم بين صفوف الأمويّين في الجهة المقابلة للإمام الحسين عليه السلام. ولذلك، يرسل الله الفتن الواحدة تلو الأخرى؛ لأنّه يريد تأسيس المجتمع الصادق الذي سيقوم بمهمّة التغيير والإصلاح العالميّ، والذي حين يجود به الزمان، يظهر المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
* الناجون من الفتن
يظهر الناجون من الفتن بعد كلّ فتنة ثابتين مطمئنّين، تغمرهم السكينة وتعلوهم البصيرة. مثلاً، أسفرت فتنة النهر وقوّة جالوت وكثرة جيشه، عن ثبات جيش طالوت ونجاته من الفتنة على الرغم من قلّة العدد. وقد وقفت هذه الفئة الناجية بكلّ ثبات، وقالت: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: 249). وافتتن قوم موسى عليه السلام بالقوم الجبّارين، حينها وقف النبيّ موسى عليه السلام ممسكاً بيد أخيه هارون عليه السلام وخاطب ربّه: ﴿رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (المائدة: 25). وأسفر افتتان الناس في زمن عيسى عليه السلام عن الحواريّين، الذين راحوا يقولون بكلّ صدق: ﴿نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ﴾ (آل عمران: 52). وها هو الإمام الحسين عليه السلام يقف مع أهل بيته وقلّة من أصحابه في الصحراء عطاشى، وسط عشرات الألوف من الذين رمت بهم أمواج الفتن من معسكره عليه السلام إلى معسكر يزيد (لعنه الله)، مقابل قلّة هم أرواح حلّت بفنائه، فمنهم مَن استشهد في الطريق، ومنهم مَن سُجنت أجسادهم في سجون التعذيب، ومنهم مَن حالت بينهم وبينه الدهور، فبكته أعينهم بدل الدموع دماً، وشعارهم دوماً: "معكم معكم لا مع عدوّكم"(2)، "معكم معكم لا مع غيركم"(3).
* عاشوراء: الاختيار الأصعب
إنّ إقامة حكومة العدل هي أحد الأدوار الأساسيّة للأئمّة عليهم السلام، ولكنّ ذلك يحتاج إلى تحيّن اللّحظة المناسبة، وإلى وجود جماعة تنصر الحقّ. وكانت الفرصة المناسبة لقيام الإمام الحسين عليه السلام هي موت معاوية بن أبي سفيان، وإعلان المجتمع الكوفيّ استعداده لنصرة الإمام عليه السلام، في حين لم يعلن مجتمع المدينة ومجتمع مكّة استعدادهما لذلك.
لذلك قرّر الإمام الحسين عليه السلام الخروج من المدينة إلى الكوفة في مشهد يشبه خروج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة إلى المدينة، وكان التحدّي الأكبر أن يصل عليه السلام إلى الكوفة، وبالطبع لم يكن تقلّب أهل الكوفة لينطلي على الإمام عليه السلام، وقد أظهر علمه بذلك لبعض الخواصّ، ثمّ أعلن عن ذلك بعد استشهاد مسلم بن عقيل.
وعلى غرار ما جرى مع المجتمع الكوفيّ، كذلك افتُتن الذين خرجوا مع الإمام الحسين عليه السلام، وبدأ عددهم يتقلّص مع كلّ فتنةٍ عصفت بهم، إلى أن بقي معه الذين استشهدوا في كربلاء بين يدَيه، وحين وصل نبأ مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، قال الإمام الحسين عليه السلام لمن معه: "من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف"(4)، فتفرّقوا عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً؛ ليبقى جيش الحسين جيشاً صافياً خالصاً لا تشوبه شائبة كذب أو نفاق.
* سرّ الثبات لنصرة الحقّ
ثمّة سؤال هامّ يُطرح هنا: ما هو السرّ في افتتانِ قلبٍ وثباتِ آخر؟ ولماذا ثبت أصحاب الإمام الحسين عليه السلام على ولائهم على الرغم من شدّة الظروف وصعوبة التحدّيات؟ ولماذا لم يُفتتنوا؟
والجواب: إنّ شهداء كربلاء لم يكن في قلوبهم ما يشبه الفتنة ليستجيبوا لها وليتفاعلوا معها؛ وذلك أنّ الفتنة تشبه السائل الذي يوضع على الذهب، فإن كان الذهب صافياً نقيّاً، لا يتفاعل مع هذا السائل، وإن كان ذهباً مخلوطاً مشوباً، غير صافٍ، تفاعل مع ذلك السائل. وشهداء كربلاء كانوا يمتلكون قلباً نقيّاً صافياً سليماً: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 89).
ومعنى أنّهم يمتلكون قلباً سليماً، أنّه لو فُتحت قلوبهم واطّلعنا عليها، لما وجدنا شيئاً سوى الله سبحانه وتعالى، والقلب الذي ليس فيه غير الله تعالى، يزهد بما سواه: "عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم"(5)؛ ولذلك تعلّقت أرواحهم به تعالى.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى"(6). وهؤلاء بخلاف من كانت الدنيا عظيمة في نظره، فيتعلّق بها ويحبّها أكثر من حبّه لله، ويخشى أموراً أكثر من خشيته لله تعالى؛ فإن رأى ما يُحبّ افتتن، وإن رأى ما يخاف افتتن، وهذا دليل على وجود مرض في قلبه، وبدايات هذا المرض هي وجود رغبة تتفاعل مع الإغراءات، ورهبة تخضع للتهديدات.
* الصادقون: أنصار الحقّ
أمّا أصحاب القلوب السليمة، فلا يتعلّقون بالدنيا، كما لا يتعلّق قلب المسافر بقاعة الانتظار، بل ينتظر موعد الرحلة ليرحل، ولذلك تركوا الدنيا ورحلوا مع الإمام الحسين عليه السلام حين قال لهم: "من كان باذلاً فينا مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله"(7). وسرّ وفائهم هو صدقهم: "الوفاء توأم الصدق"(8)، وهم لم يصدقوا في تلك اللحظة فحسب، بل إنّ منهجهم في الحياة هو الصدق.
* مراتب الصدق
يبقى كيفيّة تحقيق هذا الصدق من خلال معرفة مراتبه، للتمكّن من النجاة من الفتن، وتمييز الحقّ عن الباطل، والثبات في نصرة الحقّ وعدم خذلانه:
1- الصدق في الاعتقاد؛ أي أن يعتقد الإنسان بالحق الذي يجري على لسان الرسل والأئمّة عليهم السلام ويصدقهم في كل ما يقولون، ومعنى تصديق الله والنبيّ ليس أن نقول صدق الله سبحانه أو صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحسب، بل أن نعتقد بما يقولون، ونطبّقه، فلو قال لنا حجّة الله: إنّ العلم خير من المال، فتصديقنا إيّاه يتمثّل بأن نفضّل العلم على المال، لا أن نوقّر الأغنياء بدلاً من العلماء. وإن قال سننتصر في أصعب الظروف، صدّقه المؤمنون، ولم يرتابوا، ولم يشكِّكوا في كلامه، مهما تضايقت الأمور، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب: 22)، في حين يقول الذين في قلوبهم مرض: ﴿مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (الأحزاب: 12).
2- الصدق في القول؛ أي إنّ الإنسان لا يقول إلّا ما يعتقد به؛ وبالتالي يكون كلامه خالياً من الادّعاءات، فهو لا يدعي ما لا يعتقد به، وما يقوله يُعبّر عن مكنونات نفسه، في حين يُبتلى الكثير من الناس بالقول خلاف ما يعتقدون. قال تعالى: ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: 167).
3-الصدق في الفعل؛ يعني أنّ الإنسان يفعل ما يقوله، يعني أنه حين يعد أنه سيفعل شيئاً يفعله، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ (الأحزاب: 23)، في حين يخلف الكثير من الناس بعهدهم، كما يشير قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ (التوبة: 75- 76). فلو عرضت معتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم لوجدتها متطابقةً تماماً، فهم يقولون ما يعتقدون ويفعلون ما يقولون.
* ويبقى الثابتون
في هذا الزمان، تستمرّ الفتن الواحدة تلو الأخرى، لتستهدف المجتمع المهدويّ، الذي ينادي في زمن الغيبة بتعجيل الفرج: "واجعلنا من أنصاره وأعوانه"، فيسقط الكثيرون، ويبقى المنتظرون الصادقون على عهدهم، ففي الرواية: "له غيبة يرتدّ فيها أقوام ويثبت فيها على الدين آخرون"(9)، وحينها يصبح المجتمع مؤهّلاً بصدقه وتمييزه الحقّ من الباطل، وثباته على الحقّ؛ للقيام بالدور الأكبر في تاريخ البشريّة، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
1- ميزان الحكمة ج 3 ص 2366.
2- كامل الزيارات، ابن قولويه، ص 388.
3- المزار، المشهديّ، ص237.
4- الإرشاد، المفيد، ج 2، ص 75.
5- نهج البلاغة، الخطبة (193).
6- (م. ن.)، من كلام له عليه السلام (147).
7- مثير الأحزان، ابن نما الحلّيّ، ص 29.
8- خصائص الأئمّة، الشريف الرضيّ، ص98.
9- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 51، ص 133.