مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

وهْمُ الحياد

الشيخ قاسم بعلبكي
 

حينما يحتدم الصراع بين طرفين، ثمّة من يُفضّل البقاء على الحياد، بعيداً عن اتّخاذ المواقف وتأييد أحد الأطراف، دون البحث في مدى وقوع الظلم على أحدهم، أو امتلاكه الحقّ دون الآخر، بحجّة أنّ الحياد أسلم.

وقد لا يُلاحظ من يتّخذ الحياد أنّه يمثّل مساواةً بين الحقّ والباطل، خصوصاً في القضايا الخطيرة التي تمسّ الأمّة، وهو مخالف لقواعد الإسلام، التي تميّز بين الصالح والسيّئ، وبين الظالم والمظلوم، وبين المؤمن وغيره، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ (الجاثية: 21). أمام هذه المسؤوليّة، نطلّ في هذا المقال على الحياد عندما ينتج خذلاناً وخسارةً.. متى وكيف؟!

* من أسباب الحياد
في معركة الحقّ والباطل، يحتاج المحايدون إلى أسباب مختلفة وأعذار ومبرّرات، ولو دقّقنا النظر، لوجدنا حقيقتها:
1- الجبن والوهن.

2- عدم تحمّل المسؤوليّة والهروب منها.

3- الخوف على المصالح.

4- والأخطر، حبّ الدنيا وكراهيّة الموت.

وعلى هذا، فالحياد والحياديّة مرض من الأمراض التي إن أصابت الإنسان، انكفأ على نفسه، ووقف مستسلماً، في حين أنّ الأصل في المسلم أن يكون صاحب طاقة متحرّكة في وجه الفساد والظالمين، قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ (هود: 113).

وفي حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: "أبلغ خيراً وقُل خيراً ولا تكُن إمّعة. قلت: وما الإمّعة؟ قال: لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أيّها النّاس؛ إنّما هما نجدان، نجدُ خيرٍ ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير"(1).

* الوقوف مع الحقّ مسؤوليّة
قد تكون الحياديّة بين باطل وباطل، أو بين الحقّ والباطل، فالمسألة تتحرّك باتّجاهين، ففي الحالة الأولى "بين باطل وباطل" إذ لا شأن لك بهذا الباطل لتقوّيه بموقفك، ولا شأن لك بذلك الباطل أيضاً، إنّما هي فتنة، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ عليه السلام بقوله: "كُن في الفتنة كابن اللّبون، لا ظهرٌ فيُركَب، ولا ضرعٌ فيُحلب"(2)، فابن اللّبون هو ولد النّاقة الذّكر، الذي لم يبلغ السنة الثانية من العمر.

وهذا يُفسّر الموقف من الفتنة فيما إذا كانت بين باطلين، أو في موقف لا يُعرف به الحقّ من الباطل، فعند ذلك، لا تدع أحداً يعبر من خلالك إلى هدفه، ولا تدع أحداً يجلب طاقاتك إلى مواقعه. أمّا الحالة الثانية، فكلامٌ بين الحقّ والباطل مختلف، فمن تأمّل الوقائع الماضية والحاضرة يجد أنّ الحق (لم) و(لا) و(لن) ينتصر إلّا بقوّة أعوانه، كما أنّ الباطل (لم) و(لا) و(لن) تكون له غلبة إلّا بكثرة أتباعه، ولأجل ذلك يتحمّل مسؤوليّةَ تقهقر الحقّ وتضعضعه أمام قوى الشرّ والكفر، كلُّ من خذل الحقّ، ولم يقم بنصرته، كما يتحمل مسؤوليّةَ انتشار الفساد والشرّ في المجتمع، كلُّ مَن يرى باطلاً أو ضلالاً أو منكراً، وهو قادرٌ على ردّه وقلعه، فيحيد عنه ويتخلّف عن وظيفته الشرعيّة.

* الحياد في كربلاء
تمثّل السيرة العاشورائيّة أفضل مثال عن مسألة الحياد، حيث خُذل الإمام الحسين عليه السلام وتُرك وحيداً مع قلّة قليلة من الأعوان والأنصار في وجه المستكبرين والظالمين.

فعندما تكون المعركة بين الحقّ والباطل، لا مكان للحياد فيها، بل الواجب هو الوقوف إلى جانب الحقّ ورفض الباطل ومحاربته، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً﴾ (النساء: 75).

وفي سبيل هذا الهدف، كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وكان خروجه على ظالمي عصره.

* خذلوا الحسين عليه السلام.. لِمَ؟
من أهمّ الأسباب التي دفعت المتخاذلين إلى عدم نصرة الإمام الحسين عليه السلام، الذي خاطبهم بقوله: "فمَن قبلني بقبول الحقّ، فالله أولى بالحقّ"(3)، وقوله عليه السلام: "ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح"(4)، هي الآتي:

1- الناس عبيد الدنيا
وهو سبب تخلُّف أكثر الناس عن الفتح، وهو ما أفصح عليه السلام عنه لأصحابه في كربلاء، قائلاً: "الناس عبيد الدنيا، والدِّين لعقٌ على ألسنتهم، يَحوطُونه ما درَّت معايشُهم، فإذا مُحّصُوا بالبلاء قلَّ الديّانون"(5).

فالإمام الحسين عليه السلام وعظهم في خطبته أن يتركوا الدنيا التي جعلوها غايةً لهم، بدل أن يجعلوها وسيلة للآخرة؛ ليُبصروا الحقيقة من خلالها، فدفعهم حبُّهم للدنيا إلى ترك أبي عبد الله الحسين عليه السلام ومَنْ معه يذهبون إلى محراب الشهادة، دون أن يحرِّكوا ساكناً في نصرته.

2- عدم إدراك التكليف والأولويّة
ربّما لا يصحّ أن يعمّم التعلّق بالدنيا كسبب لجميع المتخلّفين عن الفَتْح، وفيهم من عُرفوا بإيمانهم والتزامهم. فالإمام الخامنئيّ دام ظله يتحدّث عن هؤلاء قائلاً: "كان بين الذين لم ينهضوا مع الإمام الحسين عليه السلام أشخاصٌ مؤمنون ملتزمون، فليس من الصحيح أن يُعَدّوا جميعاً من أهل الدّنيا. لقد كان بينهم رؤساء المسلمين في ذلك الوقت؛ وهم مؤمنون يذعنون بالعمل وفقاً للتكليف الشرعيّ، لكنّهم لم يدركوا التكليف، ولم يشخِّصوا أوضاع ذلك الزمان، ولم يعرفوا العدوّ الرئيس، وكانوا يخلطون بين الوظيفة الرئيسة، والوظائف من الدرجة الثانية والثالثة".

لكن ممّا لا شكّ فيه أنّهم مخطئون، وأنَّهم لم يدركوا تكليفهم الصحيح، وأنّهم حرموا أنفسهم من الفَتْح العظيم، فبعضهم كان يرى أنّ الأولويّة هي في حماية شخص الإمام الحسين عليه السلام والمحافظة عليه؛ لذا نصحوه أن يذهب إلى مناطق فيها أمان لنفسه، مقابل رؤية الإمام المعصوم عليه السلام أنّ الأولويّة هي حفظ الدّين، وإن كلّفه الشهادة.

3- عدم الالتزام بالولاية الحقّة
لقد جعل الله تعالى الولاية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ركناً أساسيّاً في عقيدة المسلم، كما ورد في الصلوات الشعبانيّة: "المتقدّم لهم مارق، والمتأخّر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق". وعلى هذه القاعدة، ورد في الروايات عن ولاية أهل البيت عليهم السلام ووجوب طاعتهم والتزام نهجهم. ومنها ما ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "ذروة الأمر، وسنامُهُ، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضى الرحمن، الطاعة للإمام بعد معرفته، إن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ (النساء: 80). أما لو أنّ رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدَّق بجميع ماله، وحجَّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه، وتكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حقٌّ في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان"(6).

وإنّ نتيجة هذه الأسباب والدوافع، أدّت بأهل الكوفة للتخلّي عن سفير الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل، وتسليمه للطاغية ابن زياد في الكوفة.

* نتائج الحياد والخذلان
هذا الحياد والخذلان، وعدم الوقوف على المسؤوليّات الإلهيّة في نصرة الحقّ المتمثّل حينها بالإمام الحسين عليه السلام والدفاع عن بيضة الإسلام، لم ينجِ هؤلاء في الدنيا، وحمّلهم عبء ما اقترفوه في الآخرة. هذا من النتائج الوخيمة على كلّ فرد منهم. أمّا ما تغيّر من مسار التاريخ وما نتج عن خذلانهم:

1- واقعة الحرّة: لو أنّ أهل المدينة وأهل مكّة نصروا الحسين عليه السلام، ولو أنّ أهل الكوفة وَفَوا ببيعتهم له عليه السلام، لما استباح مسلم بن عقبة وجنوده المدينة في أواخر سنة 63 للهجرة، ولما اغتُصبت ألف امرأة من المسلمين، ولما قُتل أكثر من عشرة آلاف رجل وامرأة.

2- تجاوز حرمة الكعبة: ولما أُحرقت الكعبة وهدّمت، ولما قُتل الكثير من أهلها على يد جيش الحصين بن نمير.

3- جرائم عبد الله بن زياد في الكوفة: ولما جرى على أهل الكوفة ما جرى من مظالم تاريخيّة بعد ما فعله عبيد الله بن زياد بأهلها.

4- تجميد عمليّة الإصلاح: نعم، كان يمكن لحياة المسلمين أن تتبدّل، وأن تتغيّر دينيّاً وفكريّاً وثقافيّاً وأمنيّاً واجتماعيّاً، ويتحسّن موقعهم، وينعموا بالسلام الداخليّ، ولأمكن الإمام الحسين عليه السلام أن يصلح في أمّة جدّه، وأن يقيم دولته، لولا أنّهم وقفوا على الحياد وخذلوه.

5- الابتلاء بالحاكم الظالم: قام الإمام الحسين عليه السلام بتطبيق شعار دستوريّ قرآنيّ: "أريد أن آمر بالمعروف"(7)، فمن خالف ذلك ابتُليَ بالحاكم الظالم كما في الحديث الشريف: "لتأمرنّ بالمعروف، أو لتنهنّ عن المنكر، أو ليسلطنّ الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم"(8).

* الحياد مع الحقِّ.. خذلان
بمعزل عن الحساب الأخرويّ وما يتعلّق به من ثواب وعقاب، ثمّة آثارٌ دنيويّة ناجمة عن مواقفنا وسلوكنا تُجاه الأحداث التي نعيشها، سواء عندما ننصر الحقّ ونؤدّي تكليفنا وواجبنا، أو عندما نتخلّف ونتخلّى عن الحقّ ولا نقوم بتكليفنا وواجبنا.

وهكذا، ففي معركة الحقّ والباطل لا مكان للحياد؛ فإمّا أن تنصر الحقّ، وإمّا أن تسكت فبذلك تنصر الباطل، ولكلّ موقف تداعياته وآثاره الدنيويّة والأخرويّة.

1- الأمالي، المفيد، ص 210.
2- نهج البلاغة، الحكمة (1).
3- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 241.
4- بصائر الدرجات، الصفّار، ص 502.
5- تحف العقول، الحرّاني، ص 245.
6- الكافي، الكليني، ج 2، ص 19.
7- الفتوح، الكوفيّ، ج 5، ص 21.
8- بحار الأنوار، المجلسي، ج 90، ص 378.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع