زينب فهدا
في صورة من أجمل الصور التي رسمتها الآيات القرآنيّة، والتي تُثني على امرأة تجسّدت فيها صفات الطهر والعفاف، والتحفت بجلباب الحياء ودثاره: ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء﴾ (القصص: 25)، فلفت ذلك نبيّ الله موسى عليه السلام، لامتناعها مع أختها عن الدخول بين الرجال تارة، حيث فضّلتا الانتظار حتّى يخلو المكان: ﴿قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء﴾ (القصص: 23)، وتارة أخرى عندما جاءت ناحيته عليه السلام وحياؤها يمشي أمامها، فسطّرت بذلك أروع صور الحياء الذي يجب أن تتحلّى به المرأة الصالحة في كلّ شيء يتعلّق بها؛ في لباسها، وسلوكها، وكلامها، وطريقة تعامُلها مع مَنْ حولها.
* الحياء في الرؤية الإسلاميّة
1- دليل على الإيمان: أصّلت النصوص الشريفة خُلق الحياء من جهات متعدّدة، بدءاً ببيان أهميّته، مروراً بأسبابه، وانتهاءً بآثاره؛ إذ اعتبرت الحياء أحد الأدلّة التي تشير إلى إيمان الفرد وتديّنه من جهة، أو عدم إيمانه عند فقد الحياء من جهة أخرى، لقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"(1)، ولما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحياء هو الدين كلّه"(2)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان"(3). وقد يتساءل بعضهم عن سبب جعل الحياء شعبةً من الإيمان. والجواب عن ذلك يكمن في أنّ كلّاً منهما داع إلى الخير، صارف عن الشر؛ فالإيمان يبعث المؤمن على فعل الطاعات وترك المعاصي، والحياء -بحسب مفهومه اللغويّ وكما جاء في الروايات- خُلق يبعث على فعل كلّ مليح وترك كلّ قبيح، والابتعاد عنه. وبذلك، فإنّ كلّ من اتّصف به يمتنع من ارتكاب المعاصي والاستهتار بها، حتّى وإن لم يمتلك الإنسان التقوى الداخليّة، فيصبح الحياء عندئذ كالحجاب الذي يحول بين المؤمن وبين ارتكاب المعاصي.
2- فقد الإيمان: أمّا علّة كون فقد الحياء دلالة على فقد الإيمان وضعفه، كما في الحديث: "الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"(4)، فهي أنّ فقد الحياء سوف ينعكس على سلوك الإنسان وتصرّفاته في الدنيا، حيث الانغماس التدريجيّ في المعاصي، والابتعاد كلّ البعد عن سلوك الإنسان المؤمن الملتزم. هذا الارتباط الوثيق بين الإيمان والحياء الذي أظهرته النصوص الشريفة، يؤكّد أنّ تحقّق الإيمان لا يمكن من دون التحلّي بالحياء، وكلّما زاد الأخير زاد الدين، باعتباره خُلُقاً من أخلاق الإسلام، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لكلّ دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء"(5).
* الحياء للنساء والرجال
ولكن هل الحياء مطلوب من المرأة فقط؟
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنّ الله قسم الحياء عشرة أجزاء، فجعل في النساء تسعة وفي الرجال واحداً"(6)؛ وفي ذلك إشارة إلى أمرين مهمّين؛ الأوّل: إنّ الحياء مطلوب من الجميع رجالاً كانوا أو نساء، فهو بذلك خصلة لها بالجنس، وثانياً: إنّ الحياء في النساء أشدّ وآكد وأكثر ظهوراً؛ لأنّه إذا زال عنهنّ زاد ابتعادهنّ عن الطريق الصحيح والصراط المستقيم.
* مصاديق الحياء
الحياء كغيره من الصفات الأخلاقيّة التي لا بدّ أن يكون الالتزام بها دون إفراط أو تفريط، بالتالي، فإنّ الفرد هو الذي يجعله ممدوحاً أو مذموماً، تبعاً لكيفيّة الاستفادة منه.
1- الحياء الممدوح:
بحسب ما ورد في الروايات الشريفة، فإنّ للحياء درجات ومراتب، وكلّ مرتبة تُمهِّد للأخرى:
أ- الحياء من الباري عزّ وجلّ في السرّ والعلن: وهو أفضل الحياء كما يقول الإمام عليّ عليه السلام: "أفضل الحياء استحياؤك من الله"(7). ولأهميّته وصّى به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحد أصحابه عندما جاءه طالباً منه أن يوصيه بقوله: "أوصني"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "استحي من الله"(8). وفي حديث آخر بيّن صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه كيف يكون هذا الاستحياء من الله عندما سألوه: "وما نفعل، يا رسول الله؟"، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فإن كنتم فاعلين فلا يبيتنّ أحدكم إلّا وأجَلُه بين عينَيه"(9).
ب- الحياء من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام: روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ أعمال العباد تُعرض على نبيّكم كلّ عشيّة خميس، فليستحي أحدكم أن يُعرض على نبيّه العمل القبيح"(10). وقد أكّدت الآيات الكريمة أنّ أعمال الإنسان تعرض على خالقه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّته عليهم السلام لقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105)؛ وفي التفاسير إنّهم الأئمّة عليهم السلام(11). هذا هو الحياء الذي طالبت به السّيدة أمّ كلثوم عليها السلام أهل الكوفة عندما دخلت إليها، وكان أهلها ينظرون إلى الأسرى، فعلا صوتها عليها السلام قائلة: "يا أهل الكوفة، أما تستحيون من الله ورسوله أن تنظروا إلى حُرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم"(12).
ج- الحياء من الملائكة: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ليستحِ أحَدُكُم مِن مَلَكَيه اللَّذَين معَهُ، كما يَستَحي من رجُلَين صالحَين من جِيرانه، وهما معه باللّيل والنَهار"(13).
د- الحياء من النفس: وهو أحسن الحياء لقول الإمام عليّ عليه السلام: "أحسن الحياء استحياؤك من نفسك"(14)، وعنه عليه السلام: "من تمام المروة أن تستحيي من نفسك"(15). فحياء النفوس يتبلور من شعورها بالنقص وعدم الرضى، والرغبة في الوصول إلى رضى الله سبحانه وتعالى.
ثمّ إنّ ثمّة الكثير من العوامل في عصرنا الحالي التي تساعد على نزع الحياء من النفوس، وتسوّق للرذائل والقبيح من الصفات، وتضرب العفّة عند الرجل والمرأة؛ فعلى قدر الحياء تكون العفّة. ولهذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى أنّ العفّة إحدى ثمرات الحياء: "أصل المروءة الحياء، وثمرته العفّة"(16). هذه العفّة التي خشيت أن تُتّهم فيها السيّدة مريم عليها السلام: ﴿قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾ (مريم: 23).
هـ- الحياء من الناس: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله"(17). ولهذا فإنّ الحياء من ارتكاب القبيح أمام الناس، والاستمرار به والمداومة عليه، تؤدّي شيئاً فشيئاً إلى الانتقال إلى مرتبة أعلى، وهي الحياء من النفس، ثمّ بعدها الحياء من الله تعالى ورسله، فقد ورد عن الإمام العسكريّ عليه السلام: "من لم يتقّ وجوه الناس لم يتّق الله"(18). ومن استحيا من الناس لا بدّ أن يكون حياؤه من ربّه أشدّ، لعلمه أنّ الله يرى.
كما أشارت الآية القرآنيّة في سورة البقرة إلى هذا النوع من الحياء عند جماعة من الفقراء الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ (البقرة: 273)، فكان استحياؤهم من إظهار الحاجة الماديّة لغيرهم.
* الحشمة نوعٌ من الحياء
ذكرت بعض الكتب التاريخيّة مصداقاً جميلاً للحياء، وهو الحشمة العالية. وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ السيّدة زينب عليها السلام كلّما أرادت زيارة قبر جدّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كانت تزوره ليلاً، مع أبيها أمير المؤمنين وأخويها السبطين عليهم السلام، وعندما تصل، كان أبوها عليه السلام يطفئ الشموع المضاءة في أطراف القبر. وفي أحد الأيّام، سأل الإمام الحسن عليه السلام عن سبب هذا الأمر، فأجابه الإمام عليه السلام: "أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب"(19).
2- الحياء المذموم:
وهو حياء منهيّ عنه في الروايات الشريفة؛ لأنّه يحرم الإنسان الكثير من الأمور الحسنة، ومنه:
أ- الحياء من سؤال التفقّه: لقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا يستحي الجاهل إذا لم يعلم أن يتعلّم"(20).
ب- الحياء من قول الحقّ: لقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من استحيى من قول الحقّ، فهو أحمق"(21).
ج- الحياء من قول لا أعلم: "لا يستحينّ أحد إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول لا أعلم"(22).
د- الحياء من طلب المعاش: "من لم يستحِ من طلب المعاش، خفّت مؤونته، ورخى باله، ونعم عياله"(23).
هـ- الحياء من خدمة الضيف: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثلاثٌ لا يُسْتَحيى منهُنَّ: خِدمَةُ الرّجلِ ضَيفَهُ، وقيامُهُ عن مَجْلسِهِ لأبيه ومعلّمِهِ، وطلَبُ الحقّ وإنْ قَلَّ"(24).
و- الحياء من إعطاء القليل: "لا تستحِ من إعطاء القليل، فإنّ الحرمان أقلّ منه"(25).
* خلق فطريّ
لا بدّ من القول إنّ إسراع كلّ من نبيّ الله آدم عليه السلام وزوجته حواء عليها السلام إلى ستر جسديهما بما تيسّر لهما من ورق الجنّة: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ (طه: 121)، إشارة إلى أنّ الحياء خلق فطريّ عند الإنسان ملازم له، عليه أن يتعهّده بالحفظ والتربية، وإلاّ زال واندثر أمام أيّ عاصفة تعصف به، حتّى يصل الأمر بالإنسان أن يقال فيه: إذا لم تستحِ فافعل ما شئت!
1- أصول الكافي، الكلينيّ، ج2، ص135.
2- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج3، ص119.
3- (م. ن.).
4- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج8، ص517.
5- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج2، ص958.
6- كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، ج3، ص127.
7- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج6، ص719.
8- بحار الأنوار، (م. س.)، ج68، ص336.
9- (م. س.)، ص333.
10- (م. ن.)، ج23، ص344.
11- البرهان في تفسير القرآن، البحرانيّ، ج2، ص839.
12- الدمعة الساكبة، البهبهانيّ، ص364.
13- كنز العمال، (م. س.)، ج3، ص118.
14- عيون الحكم والمواعظ، الليثي، ص121.
15-(م. ن.)، ص472.
16- ميزان الحكمة، (م. س.)، ج2، ص564.
17- كنز العمّال، (م. س.)، ج3، ص122.
18- بحار الأنوار، (م. س.)، ج68، ص336.
19- وفيّات الأئمّة، ص436.
20- المحاسن، البرقي، ج1، ص229.
21- عيون الحكم والمواعظ، (م. س.)، ص440.
22- نهج البلاغة، وصيّة 82.
23- ثواب الأعمال، الصدوق، ص167.
24- مستدرك الوسائل، النوري، ج16، ص260.
25- نهج البلاغة، من قصار كلامه عليه السلام، ج4، ص15.