سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
أهواء النفس وأطماعها لا تقف عند حدود، لذلك كان لا بدّ من ضبطها وتقييدها حتّى لا تخرج عن دائرة السيطرة. وفي هذا المقال استكمال لما بدأنا الحديث عنه في العدد الماضي حول مشاكل النفس وأهميّة ترويضها، من منظور أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
•كيف نروّض أنفسنا؟
لنأخذ مثالاً عن تربية الولد. كيف يجب تربية الولد؟ إذا قام الأهل بتلبية رغباته وأمنيّاته كلّها، فإنّهم بذلك لا يربّونه تربية صحيحة، والله وحده يعلم كيف سيكون هذا الولد في المستقبل. فالتربية السليمة تقتضي المحافظة على صحّة الطفل وعقله وأخلاقه، وأن يكون لديه إرادة، ويتحمّل المسؤوليّة، وذلك كلّه لا يتحقّق إلّا إذا عرفنا جيّداً ماذا نعطيه وماذا نحرمه، حسبما تقتضي مصلحته طبعاً. لذلك، يمكن معاقبته إذا ما أخفق في دروسه وامتحاناته، كحرمانه ممّا يحبّ، أو إذا ما قصّر في واجباته العباديّة، وغيرها الكثير من الأمثلة. أو على العكس، يمكن تشجيعه على القيام بعمل معيّن من خلال مكافأته بما يحبّ. فالترغيب والترهيب هما أحد أهمّ أسس التربيّة.
الأمر نفسه ينطبق على تربية النفس الإنسانيّة. فإذا كان عقلي وديني يُحتّمان عليَّ أن أصلّي، وأصوم، وأجاهد في سبيل الله، وأساعد الفقراء والمساكين، ولا أظلم أو أطغى أو أكذب... ولكنّ نفسي تطلب منّي العكس، فما العمل؟ هنا، تأتي أهميّة الترويض. وهذا يعني أن لا أطلق العنان لنفسي، بل يجب أن أمنعها عمّا تحبّ إذا كان في غير رضى الله.
•بعض الأمثلة حول ترويض النفس
1- التخلّص من إدمان المسلسلات: من الأمثلة على ذلك، تعلّق الشابّات بالمسلسلات، فنجدهنّ يتسمّرن أمام شاشة التلفاز أثناء وقت عرضها، أو حتّى قبل الوقت المحدّد، وهنّ بكامل تركيزهنّ، ولا يسمحن لأحد بمحادثتهنّ خلال المشاهدة. أمّا إذا أرادت إحداهنّ أن تروّض نفسها على أن تتخلّص من التعلّق بتلك البرامج، فإنّها تستطيع مثلاً أن لا تشاهدها، وتستبدلها بنشاطات أخرى مفيدة، كالدرس أو المطالعة أو أيّ نشاط بدنيّ يقضي على تلك الرتابة. وإذا عوّدت نفسها على هذا الأمر، فإنّها ستتخلّص من هذا التعلُّق حتماً.
وكلّ واحد منّا يدرك نفسه جيّداً، ومدى تعقيداتها وصعوباتها وعنادها، ويدرك كيفيّة التعامل معها من أجل تربيتها وترويضها وجعلها تحت إمرته خاضعةً له.
2- التخلّص من الغضب: الشخص الذي يكون سريع الغضب، عليه أن يتّخذ قراراً بضبط نفسه عند أيّ موقف يثير غضبه، فيغادر مكانه مثلاً أو يتمشّى. وهذا بالطبع لن ينجح من المرّات الأولى، بل يحتاج إلى كثير من التكرار والصبر. فالصعوبة تكمن في البدايات، إلّا أنّنا سنجد أنفسنا مع الوقت معتادين على الأمر.
3- التخلّص من التعلّق بالماديّات: ومن المفيد أيضاً أن نتخلّى عمّا نتعلّق به، فإذا كنّا نقتني شيئاً كخاتم أو ساعة أو ملابس أو أيّ شيء آخر نراه ثميناً ومهمّاً بالنسبة إلينا، فأحد أساليب ترويض النفس على عدم التعلّق بالماديّات هو التخلّي عنها وتقديمها للآخرين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاعتذار وطلب العفو ممّن نخطئ بحقّهم، والتواضع للآخرين والتحنّن عليهم.
•الأمير عليه السلام القدوة
يقول الأمير عليه السلام: "إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْه نَفْسُه فِيمَا تَكْرَه، لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ"(1)؛ هذا ما يسمّى برياضة النفس الشرعيّة، فعندما نحرم أنفسنا ممّا نحبّ، فإنّها تصبح تحت خدمتنا وطوع أمرنا، وعندها تنفّذ كلّ ما نريد. وهذا يحصل بشكل تدريجيّ طبعاً وليس دفعةً واحدة، ويحتاج إلى الصبر للوصول إلى النتيجة المطلوبة.
وها هو الأمير عليه السلام قد وصل بالرياضة النفسيّة إلى حدّ منع نفسه عمّا تحبّه من طعام، خصوصاً عند الإفطار، فيتناول قرص شعير مع القليل من الملح، مع العلم أنّه كان خليفة المسلمين ويدير بيت المال، ولكنّه كان يروّض نفسه ليكون قدوة لنا؛ لأنّ المسؤوليّة المطلوبة منه كانت كبيرة جدّاً.
طبعاً، نحن لا نستطيع أن نكون مثل الأمير عليه السلام. ومن شفقته عليه السلام علينا ورأفته بنا، أخبرنا أنّنا لا نقدر على ذلك، وهذا ما ظهر في رسالته: "أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه، ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه، أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه، ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه، أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ"(2). هنا، علينا أن نشكر أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّه لو كان التشيّع مثل عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأن نعيش مثله على قرص من شعير وثوبين فقط، لما وُجد شيعة له اليوم، "لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ، وعِفَّةٍ وسَدَادٍ"(3)؛ مطلوب من كلّ واحد منّا، وضمن طاقة نفسه وقدراتها، أن يروّضها ويهذّبها، إلى أن يحين الوقت الذي تصبح فيه تحت سيطرته بالكامل. وهذه العمليّة تشبه التربية السليمة للأبناء؛ فمنذ الصغر وحتّى يكبروا، يبقى الأبناء يطيعون آباءهم ويحترمونهم ويحبّونهم، ولا يتجاوزون حدود الأدب والأخلاق في التعاطي معهم، وهذا كلّه سببه الجذور القويّة للتربية.
•المشكلة الأساس: حبّ الدنيا
مشكلة حبّ الدنيا والخضوع لشهوات النفس الأمّارة بالسوء، إنّما هي في الحقيقة ما كان يواجهه أمير المؤمنين عليه السلام، وهي ما كانت تمنع من إقامة دولة العدل والإنصاف والعدالة وتوزيع الثروة بين الناس.
وقد عاش عليه السلام هذه المحنة في السنوات الأخيرة من حياته، وأدّت في نهاية المطاف إلى غربته وحزنه واستشهاده. لم يكن خلافه مع الآخرين يتعلّق بشرعيّة خلافته؛ فعلى المبنى الشيعيّ، كان عليه السلام إماماً معصوماً منصوباً من الله، وتجب طاعته. وعلى المبنى السنّيّ، هو الخليفة الرابع، وقد بايعه المهاجرون والأنصار. أمّا المشكلة الحقيقيّة فتكمن في أنّ فلاناً أراد أن ينصّب نفسه أميراً على البصرة، وآخر أميراً على الكوفة، فيما أمير المؤمنين عليه السلام أراد إقامة دولة العدل، وهؤلاء لم يكونوا لائقين بمواصفاتهم وبعقلهم وبحكمهم وبإدارتهم للمال العامّ ليكونوا أمراء على البصرة أو الكوفة. لذلك، خرجوا عليه، وأشعلوا حرباً ضدّه بحجّة الثأر من قتلة الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، وهم كانوا يدركون جيّداً أنّ لا علاقة للأمير عليه السلام بما حصل، بل هم مَن حاصروا ولاية الخليفة الثالث، وحرّضوا عليه، ولكنّهم كانوا لا يتجرؤون على الاعتراف بأطماعهم بأن يكونوا أمراء أو ولاة. أمّا مشكلة معاوية بن أبي سفيان، الذي أشعل حرباً ضروساً في صفّين وما بعد صفّين، فهل كانت [حربه] حول شرعيّة الأمير عليه السلام؟ طبعاً لا. مشكلته معه كانت بسبب رفض الإمام عليه السلام إبقاءه والياً على الشام؛ لأنّه لم يكن أهلاً لذلك. وأمّا السارقون لبيت المال، فكان الإمام عليه السلام يستدعيهم ويصادر الأموال منهم، فيما يلوذون بالفرار للاحتماء عند معاوية، الذي كان يؤويهم ويحميهم، ويتّخذ منهم أدوات لمحاربة الأمير عليه السلام.
إذاً، مشكلة الأمير عليه السلام في السنوات الأخيرة كانت مع طمع الناس في الدنيا وحطامها ومالها، وارتكاب المفاسد والظلم في سبيل ذلك.
•"ملأتم قلبي قيحاً"
في سنة 40 للهجرة، خاطب الإمام عليه السلام الناس بحرقة وألم في مسجد الكوفة، وهم لا يتزحزحون أو يتأثّرون، فكلٌّ مع ميله وهواه: "أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ... تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وكَيْتَ، فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ"(4)؛ أي لا علاقة لنا بالحرب، نريد أن نعيش، لقد تعبنا ومللنا من قضايا الحقّ والباطل، "مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ، ولا اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ، وسَأَلْتُمُونِي التَّطْوِيلَ دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ الْمَطُولِ، لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ، ولَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ"(5)، إلى أن قال عليه السلام: "اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ ومَلُّونِي وسَئِمْتُهُمْ وسَئِمُونِي"(6)... وقال: "لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً"(7)؛ فعندما يصبح الناس عبيد الناس، يُقتل عليّ عليه السلام في محرابه عند صلاة الصبح، وعندما يصبح الناس عبيد الناس، تأتي زوجة الحسن عليه السلام لتضع السمّ في طعامه طمعاً بمال معاوية والزواج من يزيد بن معاوية، فتعطى المال وتُحرم من الزواج، وعندما يصبح الناس عبيد الدنيا، يقتلون الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، ويقطعون رأسه، ويدوسون صدره وظهره بحوافر الخيول، ويسبون نساءه. عندما يصبح الناس عبيد الدنيا، يجري كلّ الذي جرى من ظلم وطغيان وفساد وقتل...
•فلنستغلّ الفرص
نحن لسنا معصومين، وكلّنا ارتكبنا الأخطاء والذنوب والمعاصي والآثام في حياتنا، لذلك يجب أن نستغلّ الفرص في تصحيح أخطائنا، ولا أحد يدري إن كانت هذه الفرص ستتكرّر أم لا.
(*) من خطبة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في شهر رمضان المبارك تاريخ 15/5/2020م.
1.نهج البلاغة، الخطبة (193).
2.(م. ن.)، الكتاب (45).
3.(م. ن.).
4.(م. ن.)، الخطبة (29).
5.(م. ن.)
6.(م. ن.)، الخطبة (25).
7.(م. ن.)، الخطبة (27).