آية الله الشيخ حسين مظاهري
إنّ الرجل والمرأة يتأتّى لهما تهذيب نفسَيهما داخل المنزل، والتحلّي بالفضائل والصفات الحميدة؛ أي أنّهما يستطيعان بلوغ مقام التخلية، مضافاً إلى مقام التحلية.
•مواظبة واستمراريّة
يرى علماء الأخلاق أنّ بلوغ هاتَين المرحلتَين أو المقامين أمر صعب؛ إذ إنّه من الصعب على من يملك صفاتٍ رذيلة التخلّي عنها، وقلع جذورها من الأساس، وزرع شجرة الفضيلة في نفسه، كي تنبت بدل الصفات الرذيلة، صفاتٌ إنسانيّة حميدة: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ (البلد: 11-13).
يستطيع الإنسان أن يصل إلى مقام التخلية، إلى المقام الذي يتحرّر فيه من الصفات الرذيلة، على الرغم من الصعوبة التي يلاقيها على هذا السبيل. والأمر الأصعب من ذلك، أن يزرع الإنسان في نفسه نبتة الخير ليبلغ مقام التحلية؛ أي مقام التزيّن والتحلّي بالصفات الحميدة والسامية.
وبناءً على ذلك، يستطيع الفرد قلع جذور الجزع والفزع من قلبه ليزرع مكانها ملكة الصبر، ولكنّ هذا الأمر يحتاج إلى مواظبة واستمراريّة في العمل؛ لأنّ النفس الأمّارة بالسوء إذا ما تُركت على هواها، انساقت خلف الموبقات، ولأنّها -أي النفس- كالفيل الذي ينبغي أن يضربه صاحبه بالمطرقة على رأسه باستمرار، فإذا غفل عنه لحظة ولم يطرق على رأسه، انحرف به إلى حيث الهلكة.
•الأسرة: مجلس أخلاق
على الرجل والمرأة أن يلتفتا إلى أنّ البيت هو أفضل مكان للتربية والتعليم، وأنّهما كمعلّم الأخلاق تماماً، بل قد يكونان أفضل منه إذا كانا جادَّين في عملهما من أجل الله تعالت أسماؤه. لذا يمكن القول: إنّ تشكيل الأسرة هو بمثابة تشكيل مجلس للأخلاق.
فمعلّم الأخلاق يسعى من أجل تهذيب تلميذه وتخليته من رذائل الأخلاق، بعدها يجاهد لرفعه إلى مقام التحلية؛ أي التحلّي بالصفات والفضائل الإنسانيّة. ولكن قد يصادف التلميذ معلّماً نبيهاً، حيث أثناء تهذيبه يسعى لجرّ قدمه إلى الصفات والفضائل الإنسانيّة. هذا ما تفعله الأسرة مع أبنائها. فالزوج يهذّب زوجته، والزوجة تسهم في تهذيب زوجها، وكلاهما يسعى لتهذيب الأبناء، وإيصالهم إلى الفضائل الإنسانيّة الحسنة. وعليه يمكن أن نقول: إنّ الأسرة في واقع الأمر تقوم بعملَين في آنٍ واحد.
•الأسرة تمارس التخلية والتحلية
1- التخلّي عن الجزع والفزع: إنّ هاتين الصفتين الرذيلتين، ملاصقتان للإنسان كظلّه، ولكن بالعمل الجادّ يمكن أن تقلعا من جذورهما إلى الأبد. وقد تطرّق القرآن المجيد إلى هذه المسألة الحسّاسة، وبيَّن أنّ هاتين الصفتين موجودتان في طبيعة البشر أساساً، ولكن المصلّين -على سبيل المثال- يتأتّى لهم أن يبتعدوا عنها: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ (المعارج: 19 - 22)؛ فمن يحمل بين جنبيه فزعاً، يتهاوى مقابل أتفه جملة توجّه إليه. وإذا ما كان أباً، ولاحظ أنّ سلوك ابنه سيّئ، يصرخ ويولول ولا يدري ماذا يفعل!
لكن في الأسرة الرشيدة، يستطيع الزوجان إذا استعان أحدهما بالآخر، وخدم أحدهما الآخر، وسعيا معاً لتربية الأبناء، أن يبتعدا عن الجزع والفزع.
2- التحلّي بالصبر والاستقامة: أمّا الفضيلتان اللتان تقابلان الجزع والفزع في الجانب الآخر، فهما الصبر والاستقامة، اللتان سيثبّت الباري من التزم بهما. قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: 10).
إنّ للمصلّي أجراً معلوماً، وكذا الأمر بالنسبة إلى الصائم، والملتزم بالخمس، وبالزكاة، وكذا المجاهد في سوح القتال. أمّا المسألة الوحيدة التي يُثيب الباري عليها فاعلها بغير حساب؛ فهي الصبر، مثل الصبر على المصائب، الصبر على البلايا، الصبر على تربية الأولاد، صبر المرأة على سوء خُلق زوجها، وصبر الزوج على الإساءات التي قد تبدو من زوجته. وإنّ أفضل صبر يمكن أن يثاب عليه الإنسان، هو ذاك الذي يحصل في البيت أو في المحيط العائليّ.
إذا كان الرجل عاقلاً، يمكن أن يصل إلى المقامات العالية من خلال تحمّله سوء خلق زوجته وصبره عليها، بل ويمكن أن يتعلّم الإنسان الصبر من ذلك المحيط، وعندها يصبح هو مدرسةً للصبر والتحمّل.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مِن أقلّ ما أوتيتم اليقين، وعزيمة الصبر، ومن أُعطي حظّهُ منهما، لم يبالِ ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولئن تصبروا على مثل ما أنتم عليه، أحبّ إليّ من أن يوافيني كلّ امرئٍ منكم بمثل عمل جميعكم..."(1).
3- صبر عوائل الشهداء: هنيئاً لعوائل الشهداء، إذا ما كنتم صابرين على فقدانكم لأبنائكم، وآبائكم، الذين جادوا بأنفسهم من أجل رفعة هذا الدين الحنيف.
إنّ الصعوبة التي تلاقيها النساء الفاقدات لأزواجهنّ ليست مسألة هيّنة، ولكنّها تهون عندما تفكّر تلك النساء بما سينعمن به من ثواب جزيل وأجر جميل يوم لا ينفع مال ولا بنون.
إنّ زوجة الشهيد المؤمنة، عندما تتمكّن من نفسها، وتصبر على تربية أبنائها، وعلى فراق زوجها، وعلى المسؤوليّة الخطيرة الملقاة على عاتقها، ستصل في يوم من الأيّام إلى امتلاك "الصبر"، وحينها يصبح الصبر "مَلَكَة" لديها، وتتمكّن من تجاوز مقام التخلية إلى مقام التحلية الذي يرى الإنسان من خلاله هوان البلايا والمصائب، إذا ما قيس بالأجر والثواب اللذين سينعم بهما إلى الأبد عند ربّ السموات والأرض.
•الصبر على الفقر
إنّ حياة الفقراء صعبة للغاية، وقد لا توجد مشكلة بعد الشرك مثل الفقر. أمّا إذا صبر الفقير على فقره، وصبرت المرأة على ضيق يد زوجها، بل وتمكّنت من مواساة زوجها المسكين، اعتذر لهم الله تعالى في يوم الجزاء على ما أصابهم من فقر وفاقة، وأدخلهم جنّاته من دون حساب على حدّ ما جاء في الأخبار(2)، ولا أظنّ أنّ هناك مقاماً أسمى من هذا المقام الذي يعتذر فيه الباري جلّت أسماؤه لهم جزاء صبرهم على ما لاقوا من ضيق وفقر وفاقة.
عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام: "لو يعلم المؤمن ما له في المصائب من الأجر لتمنّى أن يُقرض بالمقاريض"(3).
(*) من كتاب الأخلاق البيتيّة، الفصل الرابع - بتصرّف.
1.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج79، ص139.
2.عن الإمام الصادق عليه السلام: "إِنَّ اللَّهَ لَيَعْتَذِرُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ -الْمُحْتَاجِ كَانَ فِي الدُّنْيَا- كَمَا يَعْتَذِرُ الْأَخُ إِلَى أَخِيهِ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِي! مَا أَفْقَرْتُكَ لِهَوَانٍ بِكَ عَلَيَّ، فَارْفَعْ هَذَا الْغِطَاءَ فَانْظُرْ مَا عَوَّضْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَكْشِفُ فَيَنْظُرُ مَا عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: مَا يَضُرُّنِي مَا مَنَعْتَنِي عَمَّا [مَعَ مَا] عَوَّضْتَنِي"؛ التمحيص، الإسكافيّ، ص88.
3.المؤمن، الكوفيّ، ص15.