مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

التربية الإيمانيّة فــي الصحيفـــة السجّاديّــة

الشيخ محمّد الحْمُود


شَهِدَ عصر الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام انهياراً مأساويّاً، وانحرافاً كبيراً لم تشهده الأمّة الإسلاميّة من قبل؛ ليس على المستوى الفكريّ والعقائديّ فحسب، بل تعدّاه إلى المستوى السلوكيّ، حيث عُمل على هدم معالم الدّين وأحكام الشريعة، وذلك على إثر الهجوم الواسع النطاق الذي أخذ المفسدون والطواغيت من بني أميّة على عاتقهم القيام به، من قبيل إشاعة الأفكار الهدَّامة وترويجها، وتشجيع ألوان المجون والتحلّل الأخلاقيّ، واختراع كلّ وسيلة ممكنة لتدمير البنى الاجتماعيّة والأسريَّة وتفكيكها.

ونظراً إلى الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة التي كانت قائمة، والتي جعلت المواجهة العسكريّة متعذّرة، عمل الإمام عليه السلام على بثّ الإسلام المحمّديّ الأصيل في الأمّة، وإعادة تأهيلها وتوجيهها باستخدام أسلوب الدعاء الذي لم يكن مجرّد ابتهال ومناجاة، بل كان كنز علم ومعرفة، ومدرسة تربية وإصلاح. وقد شكّلت أدعيته هذه منظومةً قيميّةً إسلاميّةً، تشتمل على الأبعاد المعرفيّة والإيمانيّة والسلوكيّة...

•البُعد المعرفيّ
1- تنزيه الله: لقد عمل الإمام زين العابدين عليه السلام بسحر بيانه، وعذب لسانه، وبأسلوب أدبيّ رفيع، على تعريف الناس بالله تعالى من خلال إظهار صفاته، وبيان عظَمته وقدرته، وتنزيهه عمّا لا يليق بشأنه، ولا سيّما بعد أن تجرّأ أعداء الإسلام على المَساس بأُسس العقيدة الإسلاميّة وتشويهها، كإدخال شبهة التجسيم والتشبيه في أذهان العامّة، لإبعادهم عن الحقّ، وجرّهم إلى صنميّة الجاهليّة، ومثال ذلك ما ورد في الدعاء الأوّل من الصحيفة السجّاديّة: "الحَمْدُ لله الأوَّلِ بِلا أَوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَالآخِر بِلاَ آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ، الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وَعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أَوهامُ اَلْوَاصِفِينَ"(1). وفي دعاء آخر، تصدّى عليه السلام للذين يشبّهون الله تعالى، فبيّن أنَّ الله ليس كمثله شيء: "إِلَهِي، بَدَتْ قُدْرَتُكَ وَلَمْ تَبْدُ هَيْئَةٌ فَجَهَلُوكَ، وَقَدَّرُوكَ بِالتَّقْدِيرِ عَلَى غَيْرِ مَا بِهِ أَنْتَ شَبَّهُوكَ، وَأَنَا بَرِيءٌ -يَا إِلَهِي- مِنَ اَلَّذِينَ بِالتَّشْبِيهِ طَلَبُوكَ، لَيْسَ كَمِثْلِكَ شَيْءٌ"(2).

2- نعمة النبوّة: كما أكّد الإمام عليه السلام في أدعيته التربويّة على أنّ النبوّة نعمة ورحمة وهداية، وعلى أنّها حجّة الله على خلقه، فقال: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّد نَبِيِّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ دُونَ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لاَ تَعْجِزُ عَنْ شَيْء وَإنْ عَظُمَ، وَلا يَفُوتُهَا شَيءٌ وَإنْ لَطُفَ، فَخَتَمَ بِنَا عَلَى جَمِيع مَنْ ذَرَأَ، وَجَعَلَنَا شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ جَحَدَ، وَكَثَّرَنا بِمَنِّهِ عَلَى مَنْ قَلَّ. اللّهمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ، وَنَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ، إمَامِ الرَّحْمَةِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَمِفْتَاحِ الْبَرَكَةِ"(3).

3- حقيقة الإمامة: وتضمّنت أدعيته عليه السلام أيضاً حقيقة الإمامة، فبيّن فيها أنّها استمرار للنبوّة ولرسالة الإسلام في الناس، وحجّة الله على خلقه. وممّا ورد في هذا الصّدد: "اللَّهُمَّ يا مَنْ خَصَّ مُحَمَّداً وَآلَهُ بِالْكَرَامَةِ، وَحَباهُمْ بِالرِّسالَةِ، وَخَصَّصهُمْ بِالْوَسِيلَةِ، وَجَعَلَهُمْ وَرَثَةَ الأنْبِياءِ، وَخَتَمَ بِهِمُ الأوْصِياءَ وَالأَئِمَّةَ، وَعَلَّمَهُمْ عِلْمَ ما كَانَ وَعِلمَ مَا بَقِيَ وَجَعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ"(4).

4- التزوّد للآخرة: لقد عمل الإمام زين العابدين عليه السلام في مواضع عديدة من الصحيفة على تذكير الناس أنَّ حياتهم ليست محصورة في هذه الدنيا، وأنّ هناك حياة أخرى خالدة، ينبغي أن يعدّوا العدّة لها قبل أن يفاجئهم الموت، كما في دعائه: "ونَعُوذُ بِكَ من.. مِيتَةٍ عَلَى غَيْرِ عُدَّةٍ"(5).

•البُعد الإيمانيّ القلبيّ
1- تصويب العلاقة بالله: وفي ظلّ الإحباط وخيبة الأمل التي خلّفتها سياسة بني أميّة، والتي تركت بصماتها على القلوب المشحونة بغبار التعلّق بالدنيا وملذّاتها، عمل الإمام زين العابدين عليه السلام على تصويب علاقة الناس بربّهم، وبثّ روح الأمل في نفوسهم، بأنَّه هو المرتجى والمستعان والمؤمَّل والمبدأ والمنتهى، والملجأ في كلّ الأمور، وهذا ما نجده في دعائه: "اللَهُمَّ، إنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأيِهِ وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ، فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَا إلهِيْ مِنْ أُناس طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا..."(6).

2- حبّ الله: كما أشار عليه السلام في العديد من أدعيته إلى ضرورة ملء القلوب بحبّ الله تعالى، وإلى أنَّ لذّة حبّه لا تضاهيها أيّة لذّة، ومنها مناجاته: "إلهي، من ذا الذي ذاق حلاوة محبَّتِك، فرامَ منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك، فابتغى عنك حولاً، أسألك حُبَّك، وحبَّ كلِّ عمل يوصلني إلى قُربك، وأن تجعلك أحبَّ إليَّ ممَّا سواك، وأن تجعل حبِّي إيَّاك قائداً إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك. يا أرحم الرّاحمين"(7).

•البُعد السّلوكيّ
1- اللجوء إلى الله: لقد ربّى الإمام زين العابدين عليه السلام الناس في أدعيته، على اللّجوء إلى الله تعالى في شؤونهم كلّها، فهو الخالق والرّازق والقادر على كلّ شيء، بابه مفتوح للراغبين، وخيره مبذول للطالبين، ونيله متاح للآملين، ومن ذلك دعاؤه: "اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كُلَّ سُؤْلِي، وَاقْضِ لِي حَوَائِجِي، وَلاَ تَمْنَعْنِي الإجَابَةَ وَقَدْ ضَمِنْتَهَا لِي، وَلا تَحْجُبْ دُعَائِي عَنْكَ وَقَدْ أَمَرْتَنِي بِهِ، وَامْنُنْ عَلَيَّ بِكُلِّ مَا يُصْلِحُنِيْ فِيْ دُنْيَايَ وَآخِرَتِي مَا ذَكَرْتُ مِنْهُ وَمَا نَسِيتُ، أَوْ أَظْهَرتُ أَوْ أَخْفَيْتُ، أَوْ أَعْلَنْتُ أَوْ أَسْرَرْتُ..."(8).

2- فتح أبواب الأمل والرجاء: وكذلك فتح عليه السلام للمذنبين أبواب الأمل والرجاء بالله سبحانه، وبرحمته التي وسعت كلّ شيء، مشيراً إلى أنَّ الإنسان مهما كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه، ينبغي ألّا ييأس، فالله مقيل عثرات المذنبين، وغافر خطاياهم: "سُبْحَانَكَ لاَ أيْأس مِنْكَ وَقَدْ فَتحْتَ لِي بَابَ التَّوْبَةِ إِلَيْكَ"(9).

3- طلب التوبة واستنزال الرحمة: كما أرشدهم إلى أسلوب التوبة واستنزال رحمة الله تعالى، ومثال ذلك ما نجده في دعائه عليه السلام، في مناجاة التائبين: "إلهِي ظَلِّلْ عَلَى ذُنُوبِي غَمامَ رَحْمَتِكَ، وَأَرْسِلْ عَلى عُيُوبِي سَحابَ رَأْفَتِك. إلهِي هَلْ يَرْجِعُ الْعَبْدُ الآبِقُ إلّا إلَى مَوْلاهُ؟ أَمْ هَلْ يُجِيرُهُ مِنْ سَخَطِهِ أَحَدٌ سِواهُ؟ إلهِي إنْ كانَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْب تَوْبَةً، فَإنِّي وَعِزَّتِكَ مِنَ النَّادِمِينَ، وَإنْ كَانَ الاسْتِغْفارُ مِنَ الْخَطيئَةِ حِطَّةً، فَإنِّي لَكَ مِنَ الُمُسْتَغْفِرِينَ، لَكَ الْعُتْبى حَتّى تَرْضى .إلهِي بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ تُبْ عَلَيَّ، وَبِحِلْمِكَ عَنِّي اعْفُ عَنِّي، وَبِعِلْمِكَ بِي ارْفَقْ بِي"(10).

هذه غيض من فيض الدروس التربويّة المنيرة في أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام.

•دروس للحياة والأخلاق
لقد أنار الإمام زين العابدين عليه السلام بأدعية الصحيفة السجّاديّة العقول، وأيقظ الأمّة من سباتها، وحرّرها من جمودها. فما أحوجنا اليوم إلى العودة إليها، وقُلوبنا قد اعتراها الصّدأ، وباتت في أمّس الحاجة إليها.

وأختم بوصيّة الإمام عليّ الخامنئيّ دام ظله للشباب، حيث يقول: 

"أوصيكم يا أيّها الشّباب بمطالعة الصّحيفة السجّاديّة والتّدبّر فيها. المطالعة الخالية من الالتفات والتدبّر غير كافية. ستجدون مع التدبّر أنّ كلّ دعاء من أدعية الصحيفة السجّاديّة هذه، ودعاء مكارم الأخلاق هذا، هو كتاب يحتوي دروساً في الحياة والأخلاق"(11).


1.من دعائه عليه السلام إذ ابتدأ الدعاء بالتحميد لله عزّ وجلّ والثناء عليه.
2.من دعائه عليه السلام في التوحيد.
3.من دعائه في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار.
4.من دعائه عليه السلام في ذكر آل محمّد.
5.من دُعَائِهِ عليه السلام فِي الاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْمَكَارِهِ وَسَيِّئِ الأَخْلاقِ وَمَذَامِّ الأَفْعَالِ.
6.من دعائه عليه السلام مُتفَرِّغاً إلى اللهِ عزّ وجلّ.
7.من مناجاة المحبّين.
8.مِنْ دُعَائِهِ عليه السلام لِوُلْدِهِ عليهم السلام.
9.مِنْ دُعَائِهِ عليه السلام فِي الاعْتِرَافِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
10.من مناجاة التائبين.
11.1من خطب الإمام الخامنئيّ دام ظله ، ١٤/٧/١٩٩٣م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع