حمل المبعث النبويّ الشريف باقةً من القيم والمعارف الإنسانيّة والأخلاقيّة والعمليّة، هدفها تحقيق رقيّ الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وصولاً إلى خلق مجتمع إسلاميّ يستند إلى مبادئ وأهداف رسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. فما هو هذا المجتمع؟ وما هي صفاته ومي
•قوّة سياسيّة
إذا أردنا للمعارف والقيم التي جاء بها الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أن تتحقّق في أجواء المجتمع العقائديّة بكلّ معنى الكلمة، وأن تظهر آثار هذه القيم في أفعال الناس وسلوكهم، وإذا أردنا أن تكون هذا الأحكام وسيلة للتقدّم والحركة؛ فإنّنا نحتاج إلى القوّة السياسيّة؛ إذا لم يكن هناك قوّة سياسيّة، فإنّ المتغطرسين لن يرضخوا لها، والكسالى لن يطبّقوها، وسوف يمشي جيشٌ من أتباع المستكبرين والمتفرعنين وعبّاد المال وراءهم، وبذلك لن تتحقّق غاية النبوّة والأنبياء. ولهذا فإنّ الله يقول في القرآن: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (النساء: 64)، وهذا ينطبق على جميع الرسل وليس فقط على رسولنا، فيجب على الناس إطاعة هؤلاء الرسل في البلاد. لذلك، عندما جاء وفد من يثرب لدعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الهجرة إلى مدينتهم، قام صلى الله عليه وآله وسلم بإجراء مراسم البيعة معهم فوراً.
والبيعة تعني أنّكم تحت أمرنا، نحن نأتي إليكم بهذا الشرط. عندما دخل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، أوّل عمل قام به كان تأسيس قوة سياسيّة واجتماعيّة؛ أي بناء دولة وتشكيل نظام حكم، وهذا الأمر من مستلزمات عمل النبوّة. وبالطبع، كان لدى الأنبياء أعداء كثر: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾ (الأنعام: 112)، وعندما يؤسّس الأنبياء عليهم السلام دولة، سوف يضاف إليهم العدوّ الخارجيّ؛ وهذا واضح، فالعدوّ الخارجيّ إن رأى أنّه لا يوجد شكل سياسيّ ولا قدرة سياسيّة، لن يهتمّ كثيراً بما يجري، وليتكلّم كلّ أحد بما يشاء، فلن يلتفت لأمره بجديّة؛ ولكن مَن يصل إلى القدرة السياسيّة، فحينئذٍ سيشهد بالطبع مخالفة العدوّ الخارجيّ له، وكلّ مَن يرفض العدالة والحريّة وحقّ كلّ إنسان في الحياة الجيّدة والمستقلّة.
•تطوّرٌ وتنمية
المجتمع الإسلاميّ الأوّل -أي المجتمع الذي أسّسه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من بضعة آلاف نسمة في المدينة؛ فالناس الذين كانوا يعيشون في المدينة لم يتجاوزوا السبعة أو الثمانية أو العشرة آلاف نسمة منذ بداية تأسيس المدينة- قد نشأ ببركة إرشاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وببركة أحكامه والمعارف التي أهداهم إيّاها. وعلى الرغم من حصول بعض الإشكالات الأساسيّة بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن هذه الحركة كانت حركة متجذّرة وقويّة بحيث ظلّت تسير نحو الاقتدار وأضحت أقوى يوماً بعد يوم.
ففي القرن الرابع الهجريّ -وهذه من المسلّمات في التاريخ-؛ أي بعد ثلاثمائة سنة من بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وظهور المجتمع الإسلاميّ، كان المجتمع الإسلاميّ يتمتّع بأكبر انتشار اجتماعيّ في العالم على المستوى السياسيّ، وأقوى جيش على المستوى العسكريّ، وبأعلى مستوى تقدّم في مجال العلم والثقافة. فبعد ثلاثة قرون من البعثة النبويّة، تحرّك هذا المجتمع الإسلاميّ بحيث كان السبّاق من الناحية العسكريّة والسياسيّة والعلميّة والثقافيّة، ووصل إلى تلك المراتب كلّها. وبالمناسبة، فقد حصل هذا كلّه في عصر الخلفاء السيّئين والفاسدين من بني أميّة وبني العبّاس، ولو أنّه كان بدلاً من هؤلاء [الحكّام] أئمّةُ الهدى أو أشخاصٌ معيّنون من قبلهم في موقع الحكم والإدارة، لتضاعف هذا التقدّم عشرات المرّات عمّا تحقّق. هذه هي طبيعة حركة الإسلام؛ طبيعة تقدّميّة ومتضاعفة القوّة.
•... ولربّك فاصبر
لقد أعطى الله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خطّة عمل لمواجهة العداوات. منذ بداية البعثة، أمر الله تعالى رسوله بالصبر. فقال تعالى في سورة المدّثر، وهي من أولى سور البعثة النبويّة: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ (المدثر: 7)؛ اصبر من أجل ربّك. وقال في سورة المزمّل، وهي من أولى سور القرآن أيضاً: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ (المزمّل: 10)، وكذلك: ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (الشورى: 15) في سورة هود وفي سورة الشورى كذلك "استقم".
والآن ما هو معنى الصبر؟ الصبر يعني الصمود والمقاومة، الصبر يعني عدم تغيير حساباتنا الدقيقة بسبب خدع العدوّ، الصبر يعني متابعة الأهداف التي رسمناها لأنفسنا، الصبر هو السير والاستمرار بمعنويّات عالية. إذا ترافق هذا الصمود والمقاومة مع العقل والتدبير والمشورة -كما قال في القرآن: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 38)- فإنّ النصر سيكون من نصيبنا حتماً.
ثمّة شبّان مؤمنون، حاضرون في ميادين الثقافة والعلم والتقنيّات والسياسة، وفي الوعي العالميّ للقضايا؛ أي إنّهم يدركون ويفهمون القضايا الدوليّة بشكل صحيح. فالصبر يعني عدم الاستسلام، وعدم الضعف والتردّد، والتصدّي للعدوّ بشجاعة وعقل، والانتصار عليه، حيث قال تعالى في القرآن في ذلك: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ (الأنفال: 65).
(*) من كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله بمناسبة ذكرى المبعث النبويّ الشريف وحلول عام 1399 الهجريّ الشمسيّ بتاريخ 22/03/2020م.