الشيخ علي دعموش
لقد أعدَّ اللَّه نبيه محمداً صلى الله علبه وآله وهيّأه لحمل الرسالة وأداء الأمانة الكبرى وإنقاذ البشرية، وحين بلغ الأربعين من عمره الشريف اختاره اللَّه رسولاً هادياً للناس جميعاً. والمروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بُعث بالإسلام في السابع والعشرين من شهر رجب بعد عام الفيل بأربعين سنة (610م)".
وقد بدأ نزول الوحي عليه بواسطة جبرائيل الأمين في غار حراء وهو كهف صغير في أعلى جبل حراء في الشمال الشرقي من مكة كان النبي صلى الله عليه وآله يتعبد فيه للَّه سبحانه على النحو الذي ثبتت له مشروعيته، وكان قبل ذلك يتعبد فيه عبد المطلب. وتفيد الروايات أن أول آيات قرأها جبرائيل على النبي صلى الله عليه وآله هي قوله تعالى في سورة العلق: ﴿بسم اللَّه الرحمن الرحيم، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. وما يهمنا معالجته في هذه المقالة هو ما ورد في بعض النصوص التاريخية حول ما جرى حين بَدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله حيث ثمة أساطير مفتعلة دُسَّت في هذه الحادثة العظيمة لأهداف كثيرة قد لا تخفى على من أحاط بالسياسات التي اتَّبعها أعداء الإسلام من أجل تشويه صورة النبي صلى الله عليه وآله وتشكيك الناس بصدق رسالته.
* من هذه الأساطير:
1- ما ذُكر من أن الملك جاء للنبي صلى الله عليه وآله وهو في غار حراء فقال له: اقرأ قال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أمسكني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني الثالثة ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾.
2- ويضيف بعض من كتب في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وآله عندما دخل منزل خديجة كان يفكر في نفسه: لعل بصره خدعه، أو أنه كاهن، أو فيه جنون!! ولكن لما قالت له خديجة: "إن اللَّه لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد اللَّه، إنك تصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتصل الرحم" اطمأنَّ، وزال عنه الشك والتردد ونظر إلى خديجة نظرة مودة وشكر، ثم طلب أن يُزَّمل، فزُمِّل فنام!!
3- ويقول المؤرخ الطبري وبعض غيره: أن النبي صلى الله عليه وآله لما سمع نداءً يقول: "يا محمد أنت رسول اللَّه" أصابه خوف شديد حتى أنه همَّ بأن يطرح نفسه من أعلى الجبل، فتبدى له (ملك الوحي) ومنعه من ذلك.
4- وفي رواية تاريخية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وآله ذهب ليطوف بالكعبة في اليوم التالي لبعثته فرأى ورقة بن نوفل فشرح له ما جرى له مع جبرائيل فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة وقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، فشعر بأن نوفل يصدقه فاطمأن وزال عنه الشك. هذا ما تذكره بعض الروايات في قضية بدء الوحي ولكن لنا أن نلاحظ على هذا النوع من الروايات التي تضمنت في الحقيقة قصصاً مختلقة لا أساس لها من الصحة:
أولاً: ضعف سندها.
ثانياً: تناقضها واختلافها الكبير فيما بينها الأمر الذي يجعلنا نشكك في صحتها.
وثالثاً: إن هذه المرويات تذكر أن جبرائيل أخذ النبي فغطه أي عصره وحبس نفسه أو خنقه حتى بلغ منه الجهد والتعب والألم، أو حتى ظنَّ أنه يموت ويلفظ أنفاسه الأخيرة، وأنه فعل به ذلك ثلاث مرات ولنا هنا أن نتساءل: ما هو المبرر لذلك كله؟ وكيف جاز لجبرائيل أن يفعل كل ذلك مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وأن يؤذيه بالعفر والخنق إلى حدّ أنه صلى الله عليه وآله كان يظن الموت؛ ثم هل النبي صلى الله عليه وآله كان جاهلاً إلى هذا الحد بحيث يجهل نبوة نفسه ويفكر أنه قد أصابه جنون، ويحتاج في التثبت من نبوته إلى الاستعانة بخديجة ثم بخبرة ابن عمها ورقة بن نوفل.
ثم إن القرآن الكريم تحدث عن قضايا الأنبياء السابقين وسيرتهم فلم نجد أي أثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أي واحدٍ منهم، لقد تحدَّث القرآن عن قضية بدء نزول الوحي على موسى عليه السلام بشكل كامل وبيَّن جميع التفاصيل، فلم يذكر أن موسى عليه السلام أصابه الخوف أو الرعب أو الفزع بحيث حدَّث نفسه بالانتحار بعدما سمع الوحي، أو ظن بنفسه الجنون، بل إن القرآن يذكر أن موسى عليه السلام استقبل الوحي الإلهي بهدوء وسكون ولم يحدث معه شيء مما يذكر أنه حدث مع محمد صلى الله عليه وآله حين بدء نزول الوحي عليه، فهل كان موسى أفضل من محمد صلى الله عليه وآله وأثبت منه، هل يجوز أن نقول: إنَّ موسى كان لحظة نزول الوحي عليه هادئاً ساكناً مطمئناً، ولكن أفضل الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله كان لحظة بدء نزول الوحي عليه مضطرباً خائفاً مرعوباً إلى درجة أنه فكَّر في الانتحار وطرحِ نفسه من أعلى الجبل.
إن هذا النوع من المرويات ليس إلا نوعاً من الأساطير التي دسَّت في سيرة النبي من أجل الإيحاء بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن مطمئناً إلى الوحي الإلهي الذي ينزل عليه، وبالتالي التشكيك في اتصال نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله باللَّه سبحانه، ولذلك لا يمكن القبول بمثل هذه القصص التي لا تنسجم مع شخصية النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ولا مع علمه ووعيه الكامل لما كان ينتظره من مستقبل مشرق بنور الإيمان والرسالة.
* الصحيح في قضية بدء الوحي:
هو أنه قد أوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وهو في غار حراء فرجع إلى أهله وزوجته مستبشراً مسروراً بما أكرمه اللَّه به من النبوة والرسالة، مطمئناً إلى المهمة التي أوكلت إليه، وكان بمستوى هذا الحدث الإلهي الكبير الذي أكرمه اللَّه به فلم يكن خائفاً أو مرعوباً أو ظاناً بنفسه الجنون، بل كان عالماً بنبوة نفسه وكان ينتظر اللحظة التي يأتيه فيها جبرائيل ليعلن نبوته ورسالته، وبهذا رجع إلى بيته مطمئناً فلما دخل على خديجة أخبرها بأن جبرائيل كلَّمه وجهاً لوجه وأخبرها بما أنزله اللَّه عليه، وما سمع من جبرائيل فقالت له: أبشر فواللَّه لا يفعل اللَّه بك إلا خيراً، وأبشر فإنك رسول اللَّه حقاً.
وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام كيف لم يخف رسول اللَّه فيما يأتيه من قبل اللَّه أن يكون مما ينزغ به الشيطان؟ فقال عليه السلام: "إن اللَّه إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار فكان الذي يأتيه من قبل اللَّه مثل الذي يراه بعينه". وسُئل الصادق عليه السلام أيضاً: "كيف علمت الرسل أنهم رسلٌ؟ فقال عليه السلام: كشف عنهم الغطاء". ويقول العلامة الطبرسي في كتابه (مجمع البيان) في تفسير القرآن: "إن اللَّه لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين ... والآيات البينة الدالة على أن ما يوحى إليه إنما هو من اللَّه تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق".