آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآملي
تجلّى الله تبارك وتعالى للخلق بالخلق وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه"1. والقرآن الحكيم، كتاب الله، هو التجلّي الإلهي الخاص، "فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه"2. وإن تجلّي الله تعالى في كل موجود خاص هو باسم خاص من الأسماء الإلهية الحسنى وإلا فلم يكن له أيّ خصوصية.
*الخلق تجلّي الله
ومن جملة الأسماء الإلهية العظيمة، اسم "النور" ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(النور: 35).
وبهذا الاسم الشريف تجلّى الله تعالى في القرآن الكريم، الذي هو عصارة الوحي والنبوة. لذلك وسَمَ هذا الكتاب الإلهي بسِمة (النور) فقال:
﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾(المائدة: 15)
وقال تعالى:
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (التغابن: 8).
أما الهدف المتعالي لتجلّي الله تعالى في أهم الكتب السماوية، القرآن الكريم، باسم "النور" الشريف، فهو لأن فيه تنوير أجواء الحياة في المجتمعات الإنسانية. وقد ورد في القرآن وبشكل صريح هذا المقصد السامي ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (إبراهيم: 1).
والله تعالى هو الذي يصلي على عباده الصالحين ليجعلهم نورانيين: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (الأحزاب: 43).
*آثار الوحي والنبوّة
وأما أهم آثار الوحي والنبوة فهي: تفسير وشرح هذا العالم، وتوضيح ماهيّة الإنسان، وشرح العلاقة العريقة بين العالم وهذا الإنسان.
فعندما تمَّت البعثة النبوية في ساحة الوجود، اتضحت العناصر المحوريّة للعلم واتضحت أسرار المعلوم للعالِم. وعلى أثر ذلك تبيّن أن:
1 - المعلوم، كالأرض والموجودات الأرضيّة والسماويّة، من جُملة الخِلقة الإلهية، وليس الطبيعة.
2 - العِلْم، كالمعرفة بأسرار وأمور كل من الجماد والنبات والحيوان والإنسان والملائكة، هو إلهام إلهي وليس معطىً بشرياً.
3 - العالِم كالمفكّر الحوزوي أو الجامعي هو من عباد لله، وكل عبد لله هو خليفته، ومتغذٍّ ومتنعّم بمائدته.
*العلم موهبة إلهيّة
العلم ليس علمانياً على الإطلاق، بل هو موهبة إلهية. فالعلم، الذي هو سير من المعلوم إلى المجهول، إلهام من الله وهو علم إسلامي. والعالِم الذي هو خليفة الله والكاشف عن أسرار صنعه، عبدٌ لله. وهكذا المعرفة إسلاميةٌ فقط، حيث لا مجال فيها للعلمانية. لأن هذا المطلع الميمون يأتي من خلال ذكر الله.
*خلاصة البعثة النبويّة
إنّ أهمّ تأثير للبعثة النبويّة، التي هي نور الله الخاصّ، التحرّر من ثوب العبوديّة. وإنّ كل ما هو ملوّث خاضع لذلك الثوب. وكل من هو رهينٌ للآخر لا يمكنه إعطاء الحريّة لأنّه ليس حراً. فإذا كان الإنسان العالِم عبداً لله، فهذه العبودية تحرّره من كلّ ما له تعلّق خاص، وهذه خلاصة البعثة النبوية.
كذلك العِلم والمعلوم يصبحان متحررين في ظلّها. لأنّ العالِم عندما يتحرّر من الطمع والآمال المضرّة، يتخلّص بذلك العلم الذي يحمله من القيد البشري، ومن قيد المصادَرة المشؤوم.
*نشر المعرفة من أبرز آثار البعثة النبوية
إن من أبرز آثار البعثة النبوية، على مستوى الثقافة والحضارة، نشر المعرفة. وقد اعتبر الله تعالى أنّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم معلّم للكتاب والحكمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (البقرة: 129). واعتبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن تَعَلّم العلم ضروري: "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة وفريضة عادلة وسنّة قائمة"3. وفي هذا المثلث تندرج كافّة العلوم من العقائد والأخلاق والفقه والحقوق والفنون الضروريّة النافعة للمجتمع.
وتحدّث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن أنه مدينة العلم "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"4. لذلك يمكن الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره مدائن العلوم. والقرآن الحكيم الذي هو البرنامج التعليمي للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وضّح العلاقة بين العالَم والإنسان. وأطلَعَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس من خلال التعليم الإلهي العيني، والشهودي، والعروج إلى ساحة السماوات، وزيارة ملك وملكوت السماوات، على أسرار الخلق.
*العلم كاشف عن الدين
إن التأثير العميق للبعثة على الثقافة البشرية بعد شفافية نظام الخلق، هو في إثارة وتفتح دفائن العقول البشرية "ويثيروا لهم دفائن العقول"5. وعندما تثار الدفائن الفكرية تزداد القدرة على التدبر في النصوص النقلية ويحصل التلاؤم بين صفاء العقل ومرونة النقل ويصل الإبداع إلى أوج عروجه. وإذا وصل هذان الجناحان إلى التعاضد والتكامل، لم يبقَ أي مجال للجدال العقيم بين غاليله والكنيسة ولا يبقى أي مجال لبروز فكرة الفصل بين العلم والدين، لأنّ العلم كاشف عن الدين وليس مقابلاً للدين. ولأنّ كافة العلوم العقلية والنقليّة واقعة تحت إشراف سلطان المعارف الذي كان من مشهودات النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، فلا وجود لعلم يصل إلى مرتبة الوحي ولا عالِم بإمكانه أن يكون في مقابل النبي.
* إحياء الحضارة البشرية
إن أوضح دليل على تأثير البعثة النبويّة على الحضارة البشرية هو إحياؤها من خلال نفخ روح المعنويات وعبادة الله والابتعاد عن الأهواء. وأما المكان المحروم من بلوغ نور الهداية النبويّة فسيحلّ فيه الظلم والحرب والتسلّط.
يصبح الوثوق والهدوء مشهودين في ظل الوحي النبوي ويصبح الخداع والاضطراب محسوسين في البيئة المحرومة من هداية الرسالة. أما سرّ هذه الموفقية المتعلّقة بالبعثة فهو أن الإنسان بناءً على الوحي يصبح مسؤولاً عن كافة الشؤون، وتحفظ كافة أعماله وأمّا الأمر الوحيد الذي يواجهه الإنسان فهو الموت.
*الإنسان منتصر
والواضح من خلال التعاليم الدينية أن الإنسان هو المنتصر في مسألة الموت، لأنّه هو الذي يميت الموت ويزيله فيبقى موجوداً إلى الأبد. وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك فقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران: 185). فكل شخص يذوق الموت، وليس كل شخص يذوقه الموت. وإذا كان كل ذائق يهضم مذوقه ويزيله فالإنسان يحول الموت إلى حياة ويقضي على الزوال وبالتالي يصبح خالداً. إذاً، يخرج الموت من الدنيا ولا يكون على سبيل الهجرة والتراخي. وعندما يجري تفسير الموت على شاكلة الهجرة والميلاد الجديد عندها يفكر كل إنسان بتحصيل الزاد لعالم الأبد. وأما أفضل زاد يمكن تحصيله فهو التقوى ﴿تَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة: 197).
1- نهج البلاغة، الخطبة 108.
2- م.ن، الخطبة 146.
3- تحرير الأحكام، العلاّمة الحلّي، ج1 ص40.
4- الخصال، الصدوق، ص574.
5- نهج البلاغة، الخطبة 1.