الشيخ موسى خشّاب
كم تسعد الأمّ حين ترى وليدها يكبر ويشبّ أمام عينَيها وتتفتّح قواه العقليّة والجسمية على يدَيها! فتترنّم قائلة بسرور واعتزاز: "لقد كبرتَ يا بنيّ". لكنّ تلك الترنيمة تخفي خلفها موّالاً حزيناً ينبعث من قلب ذلك الشاب: "لقد كبرتِ يا أمّي"؛ فالخشونة قد غطّت ملمس يدَيها، والتجاعيد تتكاثر حول عينَيها، حتّى صوتها الحنون قد تغيّر. وأمّا بياض الرأس، فينبئك عن حكايا ليالٍ طوالٍ وجوابِ سؤالٍ أعدّته لخالقها حين يسألها عن شبابها فيما أفنتْه، قائلةً بافتخار واختصار: "إلهي، أنا أمّ".
•ثلاثة أوامر مشدّدة
شدّد الله على الإحسان إلى الوالدَين، وقرن ذلك بعبادته، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (الإسراء: 23)؛ فكما أنّه لا يليق بالله إلّا العبادة، فإنّه لا يليق بالوالدين إلّا الإحسان.
ثمّ شدّد الله تعالى على برّ الأمّ أكثر ممّا شدّد على برّ الأب، ففي الرواية عن رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حينما سأله رجلٌ: "يا رسول الله: مَن أبرّ؟ قال: أمّك. قال: ثمّ مَن؟ قال: أمّك. قال: ثمّ مَن؟ قال: أمّك. قال: ثمّ مَن؟ قال: ثمّ أباك"(1).
وقد شدّد الله أكثر على برِّهما في مرحلة الكِبر، قال تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء: 23- 24).
•سبب هذا التشديد
أحد الأسباب الواضحة في هذا التشديد هو ضعف الوالدَين في سنّ الكبر. ويتجسّد هذا الضعف في الأمّ بشكل أكبر؛ لأنّها كامرأة ضعيفة بطبيعتها، ويشتدّ ضعفها حين تصبح عجوزاً. وهذا الشعور بالضعف يؤدّي إلى حدوث مجموعة من المتغيّرات الطبيعيّة، التي تفرض أن نتعاطى معها بحكمة ومسؤوليّة، حتّى لا تؤثّر على صحّتها النفسيّة.
•المتغيّرات الطبيعيّة عند المسنّ
1- الحاجة إلى المعونة: وذلك بسبب فقدان القدرة على القيام ببعض الأمور، كالقدرة على العمل والإنتاج، وقيادة السيّارة، وإعداد الطعام، وتنظيف المنزل، أو فقدان القدرة على الاهتمام بالنظافة الشخصيّة، كالاستحمام، وقصّ الأظافر، وتسريح الشعر، وغيرها من الأمور.
2- توجيه الملاحظات: وذلك كمحاولة لنقل تجربته للآخرين، فيحاول أن يُحكم رؤيته في الأمور؛ فيصف الكثير من الأفعال بأنّها خاطئة، ويعمد إلى توجيه الملاحظات والنصائح، ويتدخّل في كلّ شيء صغيراً كان أم كبيراً.
3- عدم تقبّل الملاحظة: فهو ليس في مقام إعادة تربيته من جديد وتعليمه الصواب من الخطأ، فضلاً عن أنّه يرى الصواب في رأيه، فيميل إلى عدم تقبّل الملاحظات والتوجيهات والانتقادات.
4- الخوف من فقدان المكانة: فبعد أن كان مسؤولاً عن كلّ شيء، لم يعد قادراً على تحمّل تلك المسؤوليّة، وبعد أن كان هو الذي يرعى، صار محتاجاً إلى الرعاية، وهذا ليس بالأمر السهل؛ فالأمر يشبه أن يصبح الملك جليس بيته بعد ذهاب ملكه.
5- تقلّب المزاج: ومن المتغيّرات الطبيعيّة عند المسنّ الميل إلى التصرّف بمزاجيّة، وقد تصدر عنه تصرّفات غير مبرّرة أو حتّى غير مفهومة، فيرفض بعض الأمور دون مبرّر، وذلك بسبب تبدّل المزاج وتقلّبه.
•كيف نتعامل مع متغيّرات الأمّ؟
إنّ التعاطي غير الصحيح مع هذه المتغيّرات الطبيعيّة، يؤدّي إلى بروز مجموعة من التغيّرات غير الطبيعيّة، فتسوء الحالة النفسيّة والجسديّة أكثر، وتظهر مجموعة من المشاكل مثل القلق والاكتئاب والخرف والعجز التامّ. وكي لا تصل الأمور إلى هذه المرحلة، حذّرنا الله تعالى، وهو العليم بمَن خلق، من بعض الأمور التي هي خطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها، وهي:
1- عدم التثاقل والتضجّر: عند تلبية حاجات الأمّ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى امتناعها عن ذكر حاجاتها، فتعيش حالة من القهر الداخليّ والقلق على مستقبلها حين تضعف أكثر، وهذا القلق يؤدّي إلى الاكتئاب، قال تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ (الإسراء: 23)، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنْ أضجراك فلا تقلّ لهما: أفّ"(2)، وعنه عليه السلام: "أدنى العقوق: أفّ، ولو علم الله عزّ وجلّ شيئاً أهون منه لنهى عنه"(3).
2- عدم المنع والصدّ والزجر، وهو ما نعبّر عنه باللغة المحكيّة "بالفَشْلة" كردّ فعل على كثرة الملاحظات؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى أن تنطوي على نفسها، وتشعر أنّ كلامها لم يعد له قيمة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ (الإسراء: 23).
3- عدم انتقاد أفعالها أو كلامها، والتعامل مع أخطائها بتغافل تامّ؛ وبعبارة أخرى: التعامل مع أخطائها بكرم نفس، قال تعالى: ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ (الإسراء: 23)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "مِن أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم"(4).
4- عدم التعاطي معها بفوقيّة أو إشعارها بذلك، وهذا ما يقع به الإنسان حين يُحسن للآخرين، فيظنّ أنّ يده هي العليا، وفي الواقع، إنّ يد الأمّ هي العليا دوماً، ومَن يُحسن إليها فإنّما يُحسن إلى نفسه، وكلّ توفيق فإنّما هو بسببها، ولذلك ينبغي التعاطي معها بغاية التواضع وحفظ هيبتها وإشعارها أنّ مكانتها محفوظة، وأنّ قيمتها ما زالت كما هي، بل ازدادت وكبرت، ففي دعاء الإمام السجّاد عليه السلام: "أللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهَابُهُمَا هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ"(5)، وعن الإمام الصادق عليه السلام -في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ (الإسراء: 24)- قال: "لا تملأ عينَيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورقّة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، ولا تتقدّم قدّامهما"(6).
5- التفهّم التامّ لجميع تصرّفاتها وتقلّب مزاجها؛ وذلك أنّ حياة الإنسان في الكبر شبه حياته في الصغر؛ فهو يولد ضعيفاً ويعود ضعيفاً. وقد نبّه الله تعالى الأبناء إلى أن يلتفتوا إلى التشابه الكبير بين ضعفهم في مرحلة الصغر وبين ضعف الوالدين في مرحلة الكبر بقوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء: 24).
•وقفة مع الصحيفة السجّاديّة
يعلّمنا الإمام زين العابدين عليه السلام أعلى مصاديق البرّ(7):
1- قضاء حاجاتها بكلّ شوق ومحبّة: "وَاجْعَلْ طَاعَتِي لِوَالِدَيَّ وَبِرِّيْ بِهِمَا أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وَأَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ".
2- تقديم رغباتها على رغباتك وحاجاتها على حاجاتك: "حَتَّى أوثِرَ عَلَى هَوَايَ هَوَاهُمَا، وَأُقَدِّمَ عَلَى رِضَايَ رِضَاهُمَا".
3- عدم استكثار برّك بها: "وَأَسْتَكْثِرَ بِرَّهُمَا بِي وَإنْ قَلَّ، وَأَسْتَقِلَّ بِرِّي بِهِمَا وَإنْ كَثُرَ".
4- التجاوز عن ظلمها لك وإجحافها بحقّك مهما كبر: "أللَّهُمَّ، وَمَا تَعَدَّيَا عَلَيَّ فِيهِ مِنْ قَوْل، أَوْ أَسْرَفَا عَلَىَّ فِيْهِ مِنْ فِعْل، أَوْ ضَيَّعَاهُ لِي مِنْ حَقٍّ، أَوْ قَصَّرا بِي عَنْهُ مِنْ وَاجِب، فَقَدْ وَهَبْتُهُ وَجُدْتُ بِهِ عَلَيْهِمَا، وَرَغِبْتُ إلَيْكَ فِي وَضْعِ تَبِعَتِهِ عَنْهُمَا، فَإنِّي لا أَتَّهِمُهُمَا عَلَى نَفْسِـي، وَلاَ أَسْتَبْطِئُهُمَا فِي بِرِّي، وَلا أكْرَهُ مَا تَوَلَّياهُ مِنْ أَمْرِي. يَا رَبِّ، فَهُمَا أَوْجَبُ حَقّاً عَلَيَّ، وَأَقْدَمُ إحْسَانـاً إلَيَّ، وَأَعْظَمُ مِنَّةً لَـدَيَّ مِنْ أَنْ أقَاصَّهُمَـا بِعَدْل، أَوْ اُجَازِيَهُمَا عَلَى مِثْل، أَيْنَ إذاً -يَا إلهِيْ- طُولُ شُغْلِهِمَا بِتَرْبِيَتِي؟ وَأَيْنَ شِدَّةُ تَعَبِهِمَا فِي حِرَاسَتِيْ؟ وَأَيْنَ إقْتَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيَّ؟ هَيْهَاتَ مَا يَسْتَوْفِيَانِ مِنِّي حَقَّهُمَا، وَلاَ أُدْرِكُ مَا يَجِبُ عَلَيَّ لَهُمَا، وَلا أَنَا بِقَاضٍ وَظِيفَةَ خِدْمَتِهِمَا".
1. الكافي، الكلينيّ، ج 2، ص 159-160.
2.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج71، ص42.
3. الكافي، (م.س)، ج 2، ص 348.
4.نهج البلاغة، الحكمة 222.
5.الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 24، من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام لأبوَيه.
6.البرهان في تفسير القرآن، البحرانيّ، ج 3، ص 517.
7. الصحيفة السجّاديّة، (م.س)، الدعاء 24، من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام لأبوَيه.