الشيخ أبو صالح عبّاس
"إخوتي وأخواتي، العالم الإسلاميّ بحاجة دائماً إلى قائد متّصل بالمعصوم ومنصّب بصورة شرعيّة وفقهيّة.
تعلمون جيّداً أنّ أنزه عالِم دين هزَّ أركان العالم وأحيا الإسلام، أعني إمامنا الخمينيّ قدس سره العظيم الجليل، جعل ولاية الفقيه الوصفة الوحيدة المنقذة لهذه الأمّة، لذلك عليكم أنتم الشيعة الذين تعتقدون بها اعتقاداً دينيّاً، وأنتم السنّة الذين تعتقدون بها اعتقاداً عقليّاً، أن لا تتخلّوا عن خيمة الولاية، وأن تتمسّكوا بها من أجل إنقاذ الإسلام بعيداً من أيّ نوع من أنواع الخلاف. الخيمة هي خيمة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأساس العداء للجمهوريّة الإسلاميّة هدفه إحراق هذه الخيمة وتدميرها، فلتطوفوا حولها.
والله والله لو أصاب هذه الخيمة أيّ مكروه، فلن يبقى لا بيت اللّه الحرام ولا المدينة المنوّرة، ولا حرم رسول الله، ولا النجف، ولا كربلاء، ولا الكاظمان، ولا سامرّاء، ولا مشهد، وسوف يلحق الضرر بالقرآن".
الحاجة إلى قائد
في هذه الفقرة من الوصيّة، يضيء الحاج قاسم على جانب نظريّ مهمّ لمسألة ولاية الفقيه(1)، وهذا الجانب قلّما يُتناول عند طرح هذه المسألة، إذ كثيراً ما تُقدَّم ولاية الفقيه على أنّها من مختصّات الشيعة بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وأنّه لا علاقة للسنّة بها بحال من الأحوال، مع أنّها في واقع الأمر، وتحديداً في الجانب العقليّ الذي يحكم بضرورة أن يكون للأمّة راع، وقائدٌ ووالٍ تعود إليه، وتجتمع تحت رايته بكلّ عناصرها، تعدّ ولاية الفقيه -بمعناها العامّ- من العناصر الاتّفاقيّة والمشتركة بين السنّة والشيعة. وبإطلالة سريعة على بعض ما قدّمه إخواننا السنّة من بحوث في
الفقه السياسيّ على هذا الصعيد، فإنّنا نتمكّن من رصد هذا الأمر بدرجة واضحة. ومنعاً للإطالة، ولكي لا نخرج عن الهدف من شرح الوصيّة، نكتفي بعرض نموذج منها، وهو ما ذكره الماورديّ (ت450هـ) في ديباجة كتابه المعروف بـ"الأحكام السلطانيّة"، إذ يقول ما نصّه: "(أَمَّا بَعْدُ) فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ نَدَبَ لِلأُمَّةِ زَعِيماً خَلَفَ بِهِ النُّبُوَّةَ، وَحَاطَ بِهِ الْمِلَّةَ، وَفَوَّضَ إلَيْهِ السِّيَاسَةَ، لِيَصْدُرَ التَّدْبِيرُ عَنْ دِينٍ مَشْرُوعٍ، وَتَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَى رَأْيٍ مَتْبُوعٍ، فَكَانَتِ الإِمَامَةُ أَصْلاً عَلَيْهِ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الْمِلَّةِ، وَانْتَظَمَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ حَتَّى اسْتَثْبَتَتْ بِهَا الأُمُورُ الْعَامَّةُ، وَصَدَرَتْ عَنْهَا الْوِلايَاتُ الْخَاصَّةُ، فَلَزِمَ تَقْدِيمُ حُكْمِهَا عَلَى كُلِّ حُكْمٍ سُلْطَانِيٍّ..."(2).
ضرورة أصل الولاية
من الناحية النظريّة، يلتزم علماء السنّة بشرطيّة أن يكون المتولّي لشؤون الأمّة عارفاً بالقرآن، خبيراً بأحكام الإسلام، ليصدر تدبيره عن دين مشروع، وهذا تعبير آخر عن ولاية الفقيه ولكن بمفردات مختلفة. ومن جهة أخرى، فإنّ فقهاء الإسلام من جميع المذاهب، على الرغم من اختلافهم لناحية تحديد مَن له الحقّ في ممارسة السيادة والحكم بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتشخيص آليّات ذلك، وعلى الرغم من تعدّد النظريّات في هذا الشأن من مرجعيّة النصّ، إلى مرجعيّة الأمّة، إلى مرجعيّة أهل الحلّ والعقد، وصولاً إلى نظريّة الغلبة والدعوة إلى النفس، إلّا أنّهم جميعاً متّفقون على أصل الولاية، وضرورتها، وأمر الشريعة بها لناحية رجوع الأمّة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مَن يتولّاها ويحكمها باسم الإسلام.
كخيمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
بناءً عليه، فإنّ القائد الشهيد استهلّ كلامه في هذا الموضع بما اعتبره من مسلّمات المسلمين، وهي حاجة العالم الإسلاميّ إلى قائد منصَّب بصورة شرعيّة وفقهيّة –مع اعتماده على ما يمتاز به الإماميّة من قولهم باتّصال الوليّ بالمعصوم بلحاظ كونه نائباً عامّاً له، أو بلحاظ التأييد والتسديد، أو بلحاظ التنصيب العامّ، أو الاعتقاد باستفادة الناس من وجود الإمام المعصوم وإن غاب عنهم(3)-، لينتقل بعد ذلك إلى ما قام به الإمام الخمينيّ قدس سره من إحيائه للإسلام وتقديمه لولاية الفقيه كوصفة إنقاذيّة وحيدة للأمّة، تنسجم عمليّاً مع الحاجة التي أشار إليها آنفاً، وهي بمثابة الخيمة التي على الأمّة بأسرها أن تتمسّك بها، وتلتفّ حولها منعاً لأيّ اختلاف أو تشرذم.
وهو يرى ذلك واجباً على المسلمين جميعاً، طالما أنّها معطى عقائديّ موحّد، وإن اختلفت المباني بين ما هو دينيّ -يشمل النصّ والعقل-، وبين ما هو عقليّ بحت –عند من اقتصر في مقاربته لقضايا الولاية والسيادة في الإسلام على الجانب العقليّ فقط-؛ فهذه الخيمة هي خيمة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنّها امتداد لولايته، وتحمل روحه ونهجه، وما نراه من عداء للجمهوريّة الإسلاميّة ليس عداء لإيران التي كانت قبل انتصار الثورة شرطيّ الخليج، وحليفة الدول العظمى، بل هو في حقيقته عداء لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وللقرآن، وهو عداء أعيد تفعيله حينما عاد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيمته ليحكم باسم الإسلام من خلال ولاية الفقيه، في ظلّ نظام الحكومة الإسلاميّة في إيران.
ولأجل ذلك، فإنّ سقوط هذه الخيمة سيؤدّي إلى سقوط كلّ الأحرام والمقدّسات التي تستمدّ قوّتها من حاكميّة الإسلام واقتداره، ولن يكون القرآن بمنأى عن ذلك، إذ سيفقد فاعليّته وميدانه العمليّ الذي يعتمد في تبلوره على الولاية، وهذا ما يمكن فهمه من أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسّك بالقرآن والعترة على حدّ سواء في الكثير من وصاياه وتعاليمه، لا سيّما وصيّته الأخيرة للمسلمين في غدير خمّ(4).
1-حبّذا لو يفرد لهذا البحث الأهميّة المطلوبة، لتقديم ولاية الفقيه كمساحة للوحدة الإسلاميّة، تعزّز من ثقافة الالتفاف حول الوليّ، واستفادة الأمّة من عناصر القوّة والاقتدار التي تمتاز بها على هذا الصعيد.
2-عليّ بن محمّد البغداديّ الماورديّ: الأحكام السلطانيّة والولايات الدينيّة، ص3.
3-عن جابر الجعفي، قال: "سمعت جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ يقول: لما أنزل اللّه عزّ وجلّ على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59)، قلت: يا رسول اللّه عرفنا اللّه ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هم خلفائي يا جابر، وأئمّة المسلمين بعدي... ثمّ سميّي وكنيّي حجّة اللّه في أرضه، وبقيّته في عباده، ابن الحسن بن عليّ، ذاك الذي يفتح اللّه تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن اللّه قلبه للإيمان، قال: فقال جابر: يا رسول اللّه فهل ينتفع الشيعة به في غيبته؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إي والذي بعثني بالنبوّة، إنّهم لينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جلّلها السحاب"، الأنوار البهيّة، القمّي، ص341.
4-الغدير، العلّامة الأمينيّ، ج1، ص176؛ وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج1، ص76.