نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الحرب الناعمة: الهويّة الإسلاميّة والمناهج الوافدة

د. أحمد علي الشامي
 

ليس من العقلانيّة الدعوة إلى الانغلاق، بحجّة حماية الهويّة من التشتّت والضياع، فهذا يعني أنّ الهويّة هي على درجة من الضعف والهوان، أو أنّ الجهات والمؤسّسات المعنيّة بحفظ الهويّة وجعلها أكثر مواكبة لحركة التطوّر في الحياة قد بلغت مرحلة متقدّمة من الترهّل والعجز، أو الاثنين معاً. فالانغلاق، وإن كان يقدّم بوصفه الوسيلة الأمثل لحماية الهويّة من التهديدات الوافدة، لا سيّما في ظلّ عدم التكافؤ في الفرص والإمكانيّات، إلّا أنّه يصحّ على المدى القريب، فالانكشاف حتميّ وسيكون أكثر إيلاماً للبنى المجتمعيّة التي لم تعتد التحدّي وإتقان فنّ التعامل مع الآخر المختلف.

•الجامعة الأمريكيّة في بيروت
إنّ أولى الخطوات التي مورست في هذا المجال، كان من خلال المؤسّسات التعليميّة الغربيّة المنتشرة والفاعلة في بلادنا، ومنها على سبيل المثال، حين جرى استبدال اسم الكليّة السوريّة البروتستانتيّة، في العام 1920م، باسم الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وبعد أن كانت الهداية إلى المذهب البروتستانتيّ عنواناً مرافقاً لغاياتها الأكاديميّة، صارت تقدّم نفسها كونها جامعة علمانيّة تبشّر بقيم الليبراليّة(1). وجرى ذلك، بموجب اتّفاق بين إدارة الجامعة وكوادرها التعليميّة، وبين نخب في وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، إلى جانب مشاركة لافتة لوكالة المخابرات الأمريكيّة (CIA)(2).

•الغزو الناعم: أكثر جدوائيّة
لقد تموضعت الاستراتيجيّة الأمريكيّة خلال بدايات القرن الماضي لجهة فاعليّة الدور والتحكّم، في منزلة ابتعدت عن العلمانيّة الفرنسيّة المقاتلة للدين بشكل عامّ، وتمايزت عن العلمانيّة البريطانيّة ببصماتها المبشّرة بقيم المسيحيّة البروتستانتيّة. فقدّمت الغزو الناعم بوصفه أكثر جدوائيّة من خوض الحروب العسكريّة للسيطرة وبسط الهيمنة.

إذ تدعو هذه الاستراتيجيّة إلى تغلغل قيم الليبراليّة وأفكارها في المجتمعات المستهدفة، والعمل على غرسها في عقول وقلوب الشباب بصورةٍ خاصّة، من خلال نشر تلك القيم عبر أدوات يجري إعدادها بإتقان، وفق مناهج تعليميّة مؤثّرة.

•جامعات الغرب والثقافة الغربيّة
يروي أحد خرّيجي جامعات الغرب في بلادنا(3)، أنّ أكثر ما أزعجه في جامعته، إعداد الطالب كي يتأقلم، لا مع محيطه، بل مع المحيط الغربيّ البعيد، فالجامعة مكان لإعداد النخب من أجل النفاذ إلى مواقع التأثير وصناعة القرار. ويكمل الخرّيج الجامعيّ أنّه كان عليه بذل الجهد الكبير كي يتحرّر ممّا زرع فيه من مناهج وأفكار. ويروي خرّيج آخر، أنّ جامعته التي تعلّم فيها صارت بنظره المكان الذي يرسم فيه، ولو بشيء من المبالغة، عقل الأمّة، وتحاك فيه أحلامه في التغيير(4).

•المنهاج الليبراليّ في لبنان وتهديد الدين
تعزيزاً لنشر المنهاج الليبراليّ في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعمل العديد من المؤسّسات التعليميّة الغربيّة في بلادنا على توفير الدعم الماليّ لدارسي العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، فهذه العلوم بحسب تصريح لرئيس إحدى هذه المؤسّسات(5)، من شأنها أن تغيّر وتطوّر البشريّة، إذ تحمل الكثير من سمات الفكر الليبراليّ أكثر ممّا تحمله العلوم التطبيقيّة والعلوم البحتة بالمعنى المصطلح.

مكمن المشكلة كما يراها طلّاب من هذه المؤسّسات التعليميّة، ليس في الأطروحات الفكريّة التي يجدر التعرّف عليها، وإنّما في منهجيّة تقديمها، ما يدفع الطالب نحو تبنّي الرؤية الليبراليّة العلمانيّة كحلّ لأزمات مجتمعه. ففيما يركّز هذا المنهج على عقليّة الفرد وحقّه في التفكير باستقلاليّة وحريّة، بعيداً عن مرجعيّاته السابقة، سواء الدينيّة، أو العرفيّة، أو الأسريّة، يعمل على طرح كمّ من الأفكار المتضاربة دون وضع حلول واضحة، بحيث يبلغ الطالب حدّ اليقين بتعذر إمكانيّة وجود عقائد تمثّل الحقيقة، بل القول بنسبيّة تلك العقائد، ليصبح الدين بنظره مجرّد مؤسّسة اجتماعيّة وجزء من الإرث التاريخيّ الذي يشكّل هويّته وهويّة مجتمعه(6).

•الشرقيّون والحداثة الغربيّة
يقول رئيس إحدى المؤسّسات التعليميّة الغربيّة في بلادنا، إنّ رؤيته هي في جعل الشرقيّين يتفهّمون الحداثة الغربيّة القادمة إليهم. وجرى لاحقاً تحويل هذه الرؤية إلى منهاج تعليميّ، في كتاب دراسيّ حول التربية المدنيّة، يدعو الطلاب إلى التعامل مع التغييرات القادمة من الغرب، ولكن، مع ضرورة الإدراك بعدم التعامل مع تلك الإصلاحات بشكل سريع خشية زعزعة استقرار المجتمع.

•المعرفة باللغة الأجنبيّة
تؤكّد المناهج الوافدة على ضرورة حيازة الطالب معرفة باللغة الأجنبيّة، بحجّة عجز اللغة العربيّة عن مسايرة التطوّر المتسارع في مجال العلوم. فقد حرص منظّرو الفكر التعليميّ الأمريكيّ على ضرورة حيازة الطالب المعرفة الأدبيّة الشاملة باللاتينيّة واليونانيّة، إيماناً منهم بأنّه فقط ومن خلال دراسة هاتين اللغتين بإمكان الطالب أن يكتسب تهذيب العقل من أجل إدراك الحقيقة. وقد عبّر عن ذلك "دانيال بلس"، مؤسّس الجامعة الأمريكية في بيروت، بقوله: من خلال اللغة الإنكليزيّة يمكن الوصول إلى أفكار أفضل الرجال وأحكمهم. وتعقيباً على ذلك، يقول أستاذ الفلسفة "محمود شريح"، إنّه من خلال التخلّي عن التدريس بالعربيّة، أصبح الطالب مستغرباً في حضارته العربيّة(7).

•دور الاستشراق والاستغراب: تفوّق أو دونيّة؟
وفي الخلاصة، يمكن القول إنّ أكثر الجهات التي أسهمت في صياغة الأفكار والمناهج في بلادنا، هي "الاستشراق" الذي برع في إقناع الأوروبيّين بأنّهم يتربّعون فوق قمّة الحضارة، وفي إقناع الشرقيين بأنهم أصيلون في دونيّتهم، فهم بذلك يحتاجون إلى الغربيّ حتّى يمنحهم الحضارة.

وبذلك، غدت أطروحات الاستشراق حدوداً وقيوداً للفكر، سواء لدى الغربيّين أو الشرقيّين، وبالتحديد، حين صيغت الأفكار الاستشراقيّة على شكل مناهج ومواد تعليميّة، تنهل منها شعوب الغرب فتزداد شعوراً بالتفوّق، والتميّز، والعظمة، كما تنهل منها شعوب الشرق فيزداد شعورها بالدونيّة والتخلّف. لقد بات النموذج الغربيّ هو الأمثل الذي لا مجال أمام الشعوب التوّاقة إلى التقدّم سوى سلوكه بكلّ دقّة ومطواعيّة.

•غربة الهويّة العربيّة والإسلاميّة
إنّ واحداً من أكثر التفسيرات لتردّي أحوال مجتمعاتنا، أنّ النخب الحاكمة والمؤثّرة قد تعرّفت على نفسها من خلال عدسات الاستشراق، فراحت تجاهر بموافقتها العمياء على التشخيص الأوروبيّ لمشكلات الشرق المتردّي، وقبولها ما يقدّمه من علاج. وهنا، نستعير تعليقاً للكاتب المغربيّ "رشيد بوطيّب" يقول فيه: "إنّ ما نشهده من قراءات مغلوطة قد ساهم في خلقها آراء لشخصيّات تغرّبت عن ثقافتها وهويّتها العربيّة والإسلاميّة، ومكّنتها الميديا والنخب الغربيّة من أن تسجل لها حضوراً إعلاميّاً قويّاً"(8). وقد سبق أن قال فيهم "اللورد كرومر" المندوب السامي البريطانيّ على مصر: "إنّ هؤلاء هم حلفاء الأوروبيّ المصلحون"(9).


1.للتوسّع انظر: دراسة الجامعة الأمريكيّة في بيروت (AUB) والحرب الناعمة، إعداد مركز الحرب الناعمة للدراسات، بيروت، 2017م.
2."الجامعة الأمريكيّة في بيروت، القوميّة العربيّة والتعليم الليبرالي"، بيتي أندرسون، ص32.
3.مقال تحت عنوان "الجامعة الأمريكيّة، التأميم هو الحلّ"، أسعد أبو خليل، نشرت جريدة الأخبار، بتاريخ 30/6/2012م.
4.منح الصلح، مقالة عن الجامعة الأمريكيّة ودورها، جريدة السفير، 30/6/2003م.
5.موقع ليبانون فايلز، مقابلة مع مدير الجامعة الأميركيّة في بيروت، الدكتور فضلو خوري، نشرت في تقرير تحت عنوان "الجامعة الأمريكيّة في بيروت تقدم منحاً في التعليم الليبرالي" بتاريخ 15/1/2016م:
6.http://www.lebanonfiles.com/news/986523
7.من مقابلة مع طلاب في الجامعة الأمريكيّة.
8.قناة الجزيرة، فيلم وثائقي تحت عنوان "القوى الناعمة.. الجامعة الأمريكيّة في بيروت" نشر بتاريخ 4/2/2016م.
9.موقع قنطرة الألماني، رشيد بوطيب، الجدل حول الحجاب في أوروبا - حقد على الحجاب أم تاريخ منسيّ للمرأة الغربيّة؟ عام 2011م.
10.موقع ساسة بوست، أحمد عامر، اللورد كرومر، مؤسّس مصر الحديثة، 2/3/2016م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع