منذ عشرات السنين، هناك جهود فكريّة، ثقافيّة وإعلاميّة
مركّزة على أجيالنا وعلى عقولنا - خصوصاً على مستوى العالمَين العربيّ والإسلاميّ -
وتأتي في سياق الحرب الناعمة التي تُخاض منذ ذلك الوقت، وتركّز على فكرة محدّدة
تتعلق بـ "تحمّل المسؤولية تجاه الشأن العامّ"، سواء الأوضاع العامّة، أو الشأن
العامّ في بلد محدّد، مسؤوليّة الأفراد في حدود بلادهم لبنان أو العراق أو... إلخ.
وكذلك على المستويات كافّة سواء السياسيّة أو الإعلاميّة أو الاقتصاديّة أو
التربويّة.
وأصبح التركيز على هذا الجهد أكبر وأعظم في السنوات الأخيرة بسبب تطوّر وسائل
الاتّصال، ممّا أعطى فرصة مؤاتية لهذه الهجمة أكثر من أيّ وقت مضى.
وهذه الفكرة التي عملت عليها الحرب الناعمة، كانت على مراحل.
*مراحل الحرب الناعمة
1- في المرحلة الأولى، بدأ العمل على الموضوع الجغرافيّ،
بمعنى "على كلّ واحد أن يتحمّل مسؤوليّة بلده فقط ولا علاقة له ببلاد الآخرين
وشعوبها". هذا ما جرى العمل عليه بشكل كبير. فما يجري على الشعوب الأخرى والدول
الأخرى، ليس من مسؤوليتك، ولا داعيَ لأن تَسأل وتتابع أو تحمل همّاً، فضلاً عن أن
تفكّر كيف تساعد أو تُعين. وقد يرقى الأمر إلى مستوى الإدانة، وهذا الأسوأ، بمعنى
إذا اهتمّ أحد ما بشعوب المنطقة وما يجري عليها، فهذا أمرٌ يمكن أن يُدان عليه
الإنسان ويُهاجم هو وجماعته التي ينتمي إليها.
2- في المرحلة الثانية، قاموا بإنشاء مراكز دراسات مهمتها وضع
نظريّات تسوّق لهذه الفكرة، وجعلوا لها سياقاً قانونياً. والأسوأ أن في المدة
الأخيرة بدأ الكلام عن المعايير الدينية، وأنّ الإسلام والدين والأنبياء يقولون
ذلك، وهذا فيه أكبر تزوير تاريخيّ. وصل الأمر بالبعض أن يقول: "لم أجد في
الإسلام وفي الدين أيّ أساس لفكرة تحمّل المسؤولية تجاه شعوب المنطقة ودول المنطقة
أو ما تسمّونه الأمة". إلى هذه المرحلة وصل أمر الجهل والتزوير!
نعم، في المرحلة الأولى نجح ترويجهم للفكرة بنسبة كبيرة - وعلى المستويين العربيّ
والإسلاميّ - وما ساعد على نجاح ذلك الصعوبات، والتحديات، والأخطار التي يعيشها كل
واحد في بلده والتي هي كافية لأن تشغل أهل البلد عن غيرهم، أضف إلى ذلك الإحباطات،
اليأس، عدم الثقة بالنفس، وعدم الثقة بالآخر، الفشل، الإحساس بعدم القدرة على
الإنجاز أو على صنع الانتصار. وهذا ما تمّ العمل عليه ضمن الحرب الناعمة. وكانت
نتيجة ذلك أن كلّ شخص يشغله التفكير ببلده، وكلّ شعب يفكر بشعبه، وهذا خطأ فكريّ
وإنسانيّ ودينيّ.
3- في المرحلة الثالثة دخلوا إلى نفس البلد وقسّموا الهموم
والمسؤوليات فقالوا إنّ لكلّ طائفة مشاكلها وهمومها التي عليها أن تهتمّ بحلّها ولا
تنظر إلى هموم ومشاكل الآخرين. ثمّ وصلوا إلى المناطق، واعتبروا أن على كلّ منطقة
أن تحلّ مشاكلها ولا تنظر إلى مساعدة المناطق الأخرى.
ثم تدرّجوا في القضيّة وحصروها في العائلات، ثمّ في العشائر، وجبّ العشيرة. هذه هي
المرحلة الثالثة التي أرادوا لنا الوصول إليها. وقريباً سنصل إليها.
4- المرحلة الرابعة، والتي هي بالأصل هدف إبليس، وكل شياطين الجنّ
والإنس الذين يعملون لديه، هو أن يصلوا إلى الفرد منّا ويقولون له: أنت لا مسؤولية
عليك تجاه أيّ شيء سوى اتّجاه نفسك، وأكلك وشربك، ومتعتك وحياتك الناعمة. لا
مسؤولية عندك، أين يصبح أهلك، عائلتك أين تصبح في الدنيا والآخرة؟ لا مسؤولية عليك
تجاه أي أحد. وهذه هي الكارثة الكبرى التي يمكن أن تحلّ بأي أمّة وبأيّ إنسان على
مستوى الدنيا وعلى مستوى الآخرة.
هذا الموضوع يجري العمل عليه كما قلت في الليل والنهار، وفي كلّ وسائل الاتّصال،
على المستوى الثقافيّ، ليتمكنوا من إقناعنا وإقناع شبابنا وأناسنا، أنّ هذه هي
الثقافة السائدة، وهذا ما نعيشه اليوم، لذلك نحن معنيّون بمواجهته. رغم أن هذه
المسألة، كما سيأتي بعد قليل، من أوضح الواضحات، ومن أبده البديهيّات، العقليّة
والفطريّة والدينيّة. لكنّنا في زمن، التغوّل الإعلاميّ، وتغوّل مراكز الدراسات
وقوى الاستكبار، التي صارت تلعب ببديهيات عقولنا، وحتّى بأوضح الواضحات العقليّة
والفطريّة والدينيّة.
*مكمن الخطر
لكن، ما هي خطورة هذا المرض؟ إنّ في الجماعة أفراداً تجمعهم في إطار معين، دولة،
مجتمع، قرية، مدينة، عائلة، إذا لم توجد الروح الجماعيّة - المعنويّة، فهذه ليست
جماعة. هذه منظر جماعة، روح الجماعة هي التي تحمل المسؤولية تجاه الآخرين، واتّجاه
بقية أفراد الجماعة، وإلا إذا كان البناء في هذه الجماعة على أن يتحمّل كلّ فرد
مسؤوليّة نفسه ولا مسؤوليّة عنده تجاه الآخرين، فهي ليست جماعة هي شكل كجسد الإنسان
لكنّه ليس بإنسان لأنّه بلا روح. هنا نحن نُمسّ بروحنا لأن المطلوب هو تفتيت هذه
الجماعة البشرية، وهذا أخطر مرض يمكن أن نشهده ونشهده اليوم.
عندما يصل أحدنا إلى مستوى أنّه يعاين ويشاهد كلّ ما يجري على أهله وعلى شعبه
وعلى أمّته وعلى المقدّسات، وكل ذلك لا يعني له شيئاً، لا يهتم، حتى لا يشعر
بأَلمِهم على قاعدة أنا وبعدي الطوفان، فهذا خطر كبير.
*فطرتنا الإنسانية أعظم موهبة
وفي الجواب... قبل أن نسأل الدين والإسلام، بشكل محدّد، فلنسأل عقولنا، ونسأل
فطرتنا الإنسانية التي هي من أعظم مواهب الله سبحانه وتعالى للإنسان.
ولنأخذ مثلاً عاديّاً، إذا كنت تتمشى على شاطئ البحر أو جالساً على ضفّة نهر ورأيت
أحدهم يغرق ويصرخ، ماذا تفعل؟ تساعده أم لا؟ بشكل غريزيّ تبدأ بالصراخ وإذا لم تعرف
السباحة تصرخ للموجودين على الشاطئ، عسى أن يستطيع أحد إنقاذه. أوليس هكذا حُكمُ
العقل والفطرة؟ نفس الأمر، إذا قيل لنا إن هناك عائلة محاصرة في هذا البيت، والنار
تحيط به من كل جانب، وأهله لا يقدرون على الخروج، العقل ماذا يقول والفطرة ماذا
تقول؟ هل توجد مسؤولية من هذا النوع تجاه الآخرين أم لا؟ هذا إذا أخذنا بالأمثلة
الشخصية الصغيرة المتواضعة، فإذاً، هذا حكم العقل والفطرة، ومن يتكلم خلاف ذلك فهو
يناقض العقل ويناقض الفطرة وحتى العقل والفطرة يتوجه إلى الإنسان كإنسان، فلا أسأل
هذا الذي يغرق مثلاً: هل أنت لبناني يا أخي؟ مسلم أم مسيحيّ؟ يوجد موضوع اسمه
إنسان، ويوجد موضوع اسمه حكم العقل والفطرة اللذين يقولان إنه لديك مسؤوليات تجاه
الآخرين بمعزل عن لونهم، عن لغتهم، حتّى عن انتمائهم الدينيّ، عن الجغرافيا التي
ينتمون إليها... في المبدأ توجد مسؤولية كبيرة تجاه الآخرين بمعزل عن كلّ
الاعتبارات.
[للحديث تتمّة في العدد القادم حيث نعرض الرأي الديني من خلال الآيات والأحاديث
الشريفة، ونختم في عرض ضوابط هذه المسؤولية العامّة (بين الإفراط والتفريط)].
(*) كلمة سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)، في الليلة الثالثة من محرم
16/10/2015م.