د. فضل شحيمي (*)
نعيش منذ أشهر عديدة في ظلّ أجواء فيروس مستجدّ، يُطلق عليه اسم "كورونا" أو Covid-19، هذا الفيروس الذي أصبح وباءً عالميّاً، نعلم عنه القليل فيما نجهل الكثير، حيث تتغيّر المعطيات العلميّة المرتبطة به بحسب الدراسات والمتابعات؛ فتارةً يُقال إنّه ينتقل عبر الهواء، وتارةً عبر الرذاذ، وطوراً يكون انتقاله غير هوائيّ. أمّا الثابتة الوحيدة، فهي التفشّي السريع له، والأرقام المتزايدة لأعداد المصابين.
•"كورونا" والقلق النفسيّ
إنّ هذه الضبابيّة التي تلفّ فيروس "كورونا"، وسهولة العدوى، وأعداد المصابين المتزايدة شكّلت حالةً من القلق النفسيّ عند الناس، تجلّت باضطرابات مختلفة، بدءاً من الوسواس القهريّ، وصولاً إلى الكآبة النفسيّة. وأصبحنا كمتخصّصين نفسيّين نواجه في عياداتنا أعداداً متزايدة من المرضى، الذين يعانون من اضطرابات كهذه.
ينقسم هؤلاء المرضى إلى مجموعتين كبيرتين:
1- مجموعة لديها حالة مستجدّة، إذ لم تعانِ من أيّ حالة قلقيّة من قبل، وإنّما بدأت تشعر بعوارض القلق النفسيّ، من خوف غير مُبَرَّر، إلى ضيق في التنفّس، وخفقان سريع في القلب، وصولاً إلى تقلّب في المزاج.
2- مجموعة عانت سابقاً من أحد الاضطرابات النفسيّة، وجاء هذا الفيروس ليعيدها بالذاكرة إلى ما عانته من قبل، فبدأت تعاني من أعراض انتكاسة مرضيّة نفسيّة.
وما ساعد في ازدياد حالات القلق والتوتّر النفسيّ، هذا الكمّ الهائل من المعلومات التي تصبّ على الشبكة العنكبوتيّة، الصحيحة منها والمغلوطة، خاصّة تلك المصوّرة التي لا نعرف مصدرها إذا كان صحيحاً أو مُختَلَقاً. فأصبح المتصفّح يتلقّفها بشكل عفويّ، وأحياناً غير واعٍ، فتأخذ مجراها إلى تلك المنطقة الدماغيّة حيث تبدأ بإثارة القلق النفسيّ عبر ناقلات عصبيّة معيّنة، وعند خضوع الفرد للفكرة تبدأ لتتحوّل قناعة لديه، لتصل إلى حالة مرضيّة.
•"كورونا" ضيف نفسي ثقيل
مع مرور الوقت، تكيّف المجتمع مع هذا الوباء، ولكن ما أفرزه من اضطرابات نفسيّة بقي في وتيرة تصاعديّة، وبدأ يرمي بظلاله الثقيلة على شريحة من الناس. نحاول عرض أمثلة للانتباه واليقظة من سطوة حضور الوباء:
1- الوسواس القهريّ: ثمّة مَن أصبح هاجسه الوحيد خلال النهار والليل تعقيم يَديه بصورة متكرّرة، وهو يعلم أنّه لم يلمس شيئاً، فأصبح التعقيم المتواصل فعلاً قهريّاً يقوم به، حتّى إنّه يتأخّر عن عمله أو نشاطه بسبب تلك الهواجس. وعندما يسأله المــــــحيطون، يجيب أنّه يعلم أنّ ذلك السلوك غير عقلانيّ، إنّما "لا حول لي ولا قوّة" بمقاومته.
هنا نتكّلم عن بداية حالة من مرض الوسواس القهريّ "OCD"، مع العلم أنّ التشخيص بحاجة إلى تفصيل أكثر من ناحية جمع العوارض والسلوكيّات.
2- اضطراب اكتئابيّ: ثمّة من لم يعد يشعر بلذّة القراءة التي كانت من أهمّ هواياته، فهو ينام أكثر ممّا اعتاد عليه، وباتت أفكاره تلامس السوداويّة، ويبكي بسهولة حتّى من أبسط المشاهد الدراميّة، كما خسر بضعة كيلوغرامات من وزنه على غير عادة. هنا، نتكلّم عن اضطراب اكتئابيّ (major depressive disorder).
نعم، يمكن أن تحدث هذه الاضطرابات قبل "كورونا"، أمّا اللافت هنا، فهو تلك الطفرة في الأمراض النفسيّة القلقيّة التي ترافقت مع جائحة "كورونا"، وذلك أنّ التاريخ الحديث لم يشهد ما نراه في هذه الأزمة من نسب مرتفعة من تلك الاضطرابات. لكن عزيزي القارئ، العالم لن ينتهي هنا.
•أسباب القلق
يجب ملاحظة مجموعة من الحيثيّات والأسباب والظروف المحيطة، للعـــــمل على تخفيف عامل القلق والحدّ منه، وما يقلقنا في الآونة الأخيرة:
1- أنّ كبار السنّ والأطفال بشكلٍ خاصّ، لا يحصلون على الدعم الذي يحتاجونه بسبب إغلاق المدارس، والعزل الذاتيّ، والخوف من الذهاب إلى المستشفيات.
2- تؤدّي الفجائع الناجمة عن فقدان الأحبّة بسبب الموت أو العزلة، وفقدان الدخل، والخوف، إلى ظهور عدّة حالات صحيّة نفسيّة، أو تفاقم الحالات الموجودة أصلاً.
3- يزداد القلق النفسيّ عند هذه الأحداث نتيجة عدم مقدرة الفرد على التعبير عن حزنه أو قلقه.
4- عدم قدرة الأفراد مشاركة الآخرين أحزانهم ولا أفراحهم، وباتت المناسبات تفوتهم.
5- هذا، وأعلنت منظّمة الصحّة العالميّة في تقريرها الأخير في بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل من هذا العام، أنّ فيروس "كورونا" أوقف خدمات الصحّة النفسيّة الأساسيّة في جميع أنحاء العالم، في الوقت الذي تشتدّ فيه الحاجة إلى هذه الخدمات.
•الخوف يؤثّر سلباً في مناعتك
إنّ مصاب "كورونا" يتعرّض لعدد من الاضطرابات النفسيّة الحادّة فور معرفته بإصابته؛ لأنّه في هذه الحالة يشعر أنّه سينعزل اجتماعيّاً وعمليّاً، ويترك كلّ وسائل الحياة بحريّة التي اعتاد عليها قبل حمله لهذا الفيروس التاجيّ. لكن من الجدير بالذكر والاهتمام، أنّ تلك الاضطرابات تؤثّر سلباً في مناعة المصاب. هذا إذا ما ذكرنا كيف يتعرّض المريض للتنمّر خلال مرضه وفترة حجره وحتّى بعد شفائه، وهو ثقل نفسيّ آخر يزيد من خوفه الاجتماعيّ واضطرابه النفسيّ، وقلقه؛ لذلك يجب أن لا ننسى الدعم النفسيّ من العائلة مباشرة أو عبر متخصّصين، وبذلك نقلّل من احتمال الإصابة بمضاعفات هذا الوباء.
•لكلّ قلق علاج وأمل
أمّا عن علاج تلك الحالات مع وجود كوفيد- 19، فإنّه لا يختلف عن العلاج بحالات عدم وجوده. فأحياناً نكتفي بالعلاج النفسيّ والسلوكيّ، وأحياناً أخرى يحتاج المريض إلى العلاج الدوائيّ، مضافاً إلى النفسيّ. ونشدّد على عدم الخوف من أنواع العلاج المتخصّص، وبخاصّة إذا جرى تحت مراقبة ومتابعة الاختصاصيّين النفسيّين.
إضافةً إلى ضرورة أن نعرف:
1- أنّ هذه الحالة الوبائيّة إلى زوال، وأن الأمور الحياتيّة ستعود إلى طبيعتها، فتعالوا ننظر بأمل إلى ما بعد كوفيد- 19، وأن ننظر إلى مستقبل صحيّ من الناحية النفسيّة والعقليّة.
2- لا بدّ من أخذ الحيطة والحذر من ناحية العدوى الوبائيّة للفيروس؛ لأنّ ذلك يترك لدى الإنسان ثقةً بالانضباط.
3- لن ينتهي العالم عند (كوفيد- 19)، كما إنّه لم ينتهِ عند سلسلة من الجوائح عرفناها عبر التاريخ، والحياة مستمرّة.
وهذا الشعور يعزّز لديه الثقة بالنفس، بالتالي، يرفع من منسوب التقدير الذاتيّ والمناعة النفسيّة، ما يزيد الوقاية من الاضطرابات النفسيّة التي قد تحصل خلال الجائحة.
•للسيطرة على القلق
إنّ الشخص المصاب بقلق من جرّاء الفيروس يحتاج إلى التوقّف لفترة عن تلقّي أخبار الفيروس المتواترة على مدار الساعة. وبما أنّ الإنسان يحتاج إلى المعلومة، فبإمكانه أن يطلب من أصدقائه وأهله أن يحيطوه علماً في حال كان ثمّة إجراء مهمّ للغاية يعنيه بشكل مباشر؛ مثل صدور قرار ذي صلة بالعدوى في البلد الذي يعيش فيه. هذا أوّلاً.
ثانياً: من الأفضل ألّا نلجأ إلى محرّك البحث "غوغل" بين الفينة والأخرى، ولا سيّما أنّ المعلومات التي سنحصل عليها، قد تكون من مواقع غير متخصّصة وغير موثوقة.
ثالثاً: الابتعاد عن الأفكار السلبيّة، كالتفكّر في أنّ أفراد عائلتنا قد يرحلون عن هذه الحياة بسبب الفيروس، في حين يمكننا أن نتحلّى بجرعة تفاؤل وأمل بالله تعالى، ونتذكّر أنّ مصابين كثراً يتماثلون للشفاء.
•نصائح عمليّة
من النصائح المفيدة لتجنّب الإصابة بنوبات هلع متكرّرة الآتي:
1- تنظيم الوقت.
2- وضع برنامج في الليل لليوم التالي ولو كان برنامجاً محدوداً، فالنظام يساعد صحّتك النفسيّة ويرفع الدافعيّة.
3- التواصل الآمن بشكل أكبر مع العائلة، الزوجة، والأطفال؛ فمعظم الناس لديهم مشكلة في هذا الأمر بسبب انشغالات الحياة الكثيرة.
4- عدم الخجل من سؤال أهل الاختصاص بموضوع القلق النفسيّ، وهذا الأمر متاح بوجود خطّ ساخن في معظم المناطق، ويمكن للشخص أن يتواصل مع المختصّين النفسيّين لتخفيف العبء عنه.
5- أمّا النقطة الأخيرة، فهي موجّهة للأهل، فالأولاد بطبيعتهم ينسخون مشاعر الأهل، فإذا وجدوا الأهل قلقين يقلقون والعكس صحيح، فعلى الأهل أن يعطوا طاقة إيجابيّة للأولاد، ويشرحوا الشرح لهم بشكل موجز عن الفيروس للتعرّف عليه، وطرق الوقاية منه.
(*) متخصّص في الأمراض النفسيّة والعقليّة.