نور رضا
وبدأت رحلة العزل لدى القادمين من الجمهوريّة الإسلاميّة، فكان لا بدّ من أداء التكليف والواجب، وقضاء ما يسمّونه بالحجر الصحيّ. أمّا بالنسبة إليّ فأُطلق على أيّام الحجر "أيّام ألطاف الله الخفيّة".
•على غير عادتي
لم أُقبّل يدَي والديّ، ولم أشمّ رائحة قهوة أمّي، ولم أرَ أطفال العائلة يتسابقون لرمي أنفسهم في حضني كالمعتاد، بل توجّهتُ من المطار إلى خلوتي بنفسي؛ تفادياً لنقل العدوى إلى أرحامي ومجتمعي. هذا إن كنتُ أحمل الجرثومة المنحوسة تلك.
يا الله، ما أضعف البشر! جرثومة لا تراها العين، تشُلّ حركة كوكب بأكمله. وفي لحظات تتضعضع أعضاء الجسم ويدخل صاحبها في نوم أبديّ.
أوّل التأمّلات كانت هذه.
•فرصةٌ للعودة إلى الله
أوّل ألطاف الله أن منَّ عليَّ بمكانٍ في قلب الطبيعة، أفتح النافذة وإذا بكلّ شيء يدُلّ على وجوده، سبحانه ما أكرمه! وما إن أخرج حتّى تغطّيني شمسه بدفئها. بعض صديقاتي في الحجر في منازلهنّ؛ أي بين أربعة جدران ونافذة مطلّة إن كنّ محظوظات.
كنتُ أتشوّق إلى اختبار الصبر في خلوتي، فهو تحدٍّ مع نفسي التي لا تطيق الوحدة، وإذ بي أغرق في التأمّل والعبادة. أصبح القرآن غنائي في الأوقات كلّها، مُنزّلاً السكينة على قلبي وجوارحي.
وصلاتي لا أذكر أنّي صليتُ مثلها في عمري إلّا مرّات قليلة جدّاً، وأنا في أوج انكساري وحاجتي إلى الله ورحمته، لأنسى سريعاً مذاقها العذب بعد انقضاء البلاء والعودة إلى ضوضاء الحياة اليوميّة. كنتُ قد حفظت جزءاً متواضعاً من سورة مريم لشدّة حبّي لها منذ سنوات كثيرة، لكنّني بطبيعة الحال، وبسبب كسلي وتقاعسي لم أكمل حفظها يوماً. قرّرتُ أن أحفظ كلّ يوم بعضاً من آياتها لعلّها تعبّد الطريق مجدّداً لحفظ القرآن، ولعلّ الله يتقبّلني قبولاً حسناً في دار المقرّ والمستقرّ.
•تأمّلٌ في إبداع الله
في كلّ يوم أجلس تحت السماء وليس حولي إلّا الأشجار والأزهار، فلا أحد يأتي إلى هنا سوى لإحضار صينيّة الطعام قبل أذان المغرب. نعم، لقد قرّرتُ صيام أيّام عزلتي لعلّ الله يجعل لي آية، خاصّة وأنّ للصيام أثراً كبيراً في دروس الصبر أيضاً.
نعم، لديّ حديقة صغيرة يسرح نظري فيها، وأتأمّل أصوات الطبيعة من طيور، وأشجار، وقطرات مطر، وحشرات صغيرة، حتّى جيوش النمل الكادحة التي تعمل ليلاً نهاراً. كثيراً ما غفلتُ كم أنّ الله مبدعٌ في خلقه! وامتزاج ألوان الطبيعة لا يمكن وصفه؛ لا أتعب من تأمّل الألوان ودرجاتها في الأرض والسماء. تارةً أجلس وأتأمّل وأتفكّر، وتارةً أقرأ القرآن أو بضع صفحات من كتاب.
عُدت إلى هواية الرسم التي تركتها منذ سنوات عديدة، ألتقط صوراً ربيعيّة في الخارج، وأبدأ بنسخها على لوحتي ببعض التصرّف. حتّى هذا الرسم يدفعني إلى التأمّل في خلق الله وجماله.
•وأيّ سجن؟!
في هذا اللطف كلّه الذي يغمرني، لا يكفّ هاتفي يرنّ، يتّصل بي الأهل والأصدقاء من كلّ حدب وصوب، ليواسوني ويقولوا لي: "إن شاء الله بتطلعي بخير وعافية وما على قلبك شر"، و"خلّيكي قويّة"، و"كيف نفسيتك؟ إن شاء الله مش عم تتعبي؟!".
هنا أتذكّر الأسرى في سجون العدوّ، ويتبادر إلى ذهني إمامنا الكاظم المظلوم عليه السلام ونبيّ الله يوسف عليه السلام، فأنا محاطة بوسائل الترفيه، واهتمام الجميع وخوفهم عليّ من الوحدة، فكيف بهذَين العظيمَين اللذين خضعا لمعاناة السجن كلّها؟
•أخاف على الناس من حولي
كنت أمسك بحبلي كلّ يوم لأمارس رياضة القفز على الحبل، فهي أيسر الرياضات دون أن أحتاج إلى التجوّل في القرية وإشاعة الخوف بين الناس. كنتُ أتذكّر معصومة آباد، أسيرة حرب صدّام التي كانت تصنع من شعرها حبلاً لتحافظ على سلامة بدنها وتمارس الرياضة في زنزانتها. آه يا ربّي، أين أنا من هؤلاء؟
ذكرتُ أنّني لا أتجوّل في القرية كي لا أثير الرعب في قلوب الناس، نعم، هذا صحيح، فالناس في خوف شديد واضطراب متزايد من هذا الفيروس المخيف. وأنا أيضاً أخاف أن أحمله أو أنقله لغيري. حالة الهلع ظاهرة، وأغلب الناس انكبّت على شراء الكمّامات والكفوف الطبيّة والمعقّمات. لو أنّنا نتعامل بهذا الحرص مع الله سبحانه وتعالى، لو كنّا نخافه فعلاً إلى هذه الدرجة، لكنّا مستغرقين في طاعته، ونبحث في أدقّ التفاصيل التي تجنّبنا (عدم رضاه) على الأقلّ.
يا الله! كل ما لديك من لطف وخير أنزلته إليّ يجعلني أدور في فلك عشقك. ومع هذا، أقوم إلى صلاة الليل متكاسلة وأدّعي تذوّق حلاوة اتّصالي بك في لحظات وحدتي، وأتباهى وأُحدّث نفسي كم أنّ اختبار الصبر هذا تحدٍّ يجب أن أفوز فيه.
شكراً لك يا الله، على هذا الدرس العظيم. اللهمّ طهّر قلبي وسمعي وبصري، ولا تحرمني من فرصة عالم الوحدة في عالم الكثرة ما حييت.