أحمد بزي
13 رجب، عام 9 للهجرة، المدينة المنوّرة.
- "... والوجهةُ "تبوك"، في أقصى الشَّمال...يا أبطالَ جيشِ التّوحيد، أعدّوا العدّة، والعَتاد، والمُؤن، والأرواح. إنّا سنمضي لغزوِ الرّوم، دونِ سندٍ أو حليف، فداءً للإسلامِ العزيز ونبيِّ الأمّة صلى الله عليه وآله وسلم، والوجهةُ إلى (تبوك)، في أقصى الشّمال. يااااااا أبطالَ جيشِ التوحيد...".
- "تبوك! لماذا تبوك؟!".
- "لأوَّل مرةٍ يُعلنُ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن وجهةِ الغزوة، يا للعجب!".
* إعداد العدّة
كلُّ البقاعِ بين حجر والشّام هي مستعمراتٌ تتبعُ لإمبراطوريّةِ الرّوم الشّرقية، وفيها تتربّعُ قلعةٌ رفيعةُ الجدران تُسمّى "تبوك". تشهدُ تلكَ القلعة على خوفِ عسكرِها من جيشِنا بعد هزيمةِ وَثَنيَّةِ مكّةَ على يدِ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم. وصلت إلينا الأخبارُ إلى المدينةِ بأنَّ الامبراطور يُجهّزُ جيشاً من أربعين ألف فارسٍ وراجلٍ لمهاجمتنا، ووصل إلينا أيضاً أنَّ آثارَ شجاعة عليٍّ عليه السلام في الحروب تُشكّلُ بنظرهم قوَّة الرَّدعِ الكُبرى لدينا، فخافوه. وما إنْ أعلنَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم التّعبئةَ العامّة في المدينة استعداداً للغزو، حتّى بدأ الناسُ بالتأهّب؛ فشارك الأغنياءُ في تجهيزِ الجيش، وكان الغازي المُقتدرُ يأتي بالبعيرِ إلى الرجل والرّجُليْن، ثمّ يُعطيهما نفقةَ الخروج.
النّساءُ ساهمنَ بحُليّهِنَّ أيضاً، وشاركنَ الرِّجالَ في النّفقة، واشتركنَ بكلِّ ما قدرنَ عليه من مسكٍ، وأَسوِرة، ومعاضد، وخلاخيل، وقراط، وخواتيم...
* محاولات باءت بالفشل
وأمام مشهدِ العشقِ للدفاعِ عن عزّة الإسلام ورفعته، ارتسمَتْ صورةٌ أخرى قاتمة. بدأتْ تتنزَّلُ معالمها في آياتٍ من سورةِ التّوبة، يتلوها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم علينا كلما فُتِحتْ أفواه أصحابِ الأعذارِ والتَّثبيط. فهذا واحدٌ يقول بوقاحة: "أنا معروفٌ في قومي أنّني أكثرُ من يُعجَبُ بالنساء، وأخافُ إن رأيتُ بنات الرّوم الشّقر أن أُفتنَ بهنَّ ولا أصبر"! وقال آخرون: "الآن موسمُ حرٍّ شديد، والسَّفر بعيد، جهدٌ ومشقَّة، ثمّ إنّها أوّلُ غزوةٍ إلى تلك المنطقة، لا أمانَ لا أمان، وقطافُ الثمار أجدى لحالنا المُتراجع هذا". ثمّ تطاول بعضهم: "أيظنُّ النبيُّ أنَّ قتال الرّوم لعبةُ حربٍ بين أطفالِ الحيّ؟".
لكلِّ هذا، أعلن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه المرّة الوجهة؛ لأنَّ الدربَ بعيد، والحملَ ثقيل، والهدف يحتاجُ إلى قلوبِ الآسادِ من الرِّجال. وعلى الرغم من إمعانِ هؤلاء المنافقين القلّة في إبطاءِ الناس عن المسير، إلّا أنَّ الساحاتِ بدأت تعجُّ بالمقاتلين؛ الكلُّ يأتي محمّلاً بالطعام والشراب، الفرسان يجرّون خيلهم، أهل الخبرة بالطريق يشرحون في ما بينهم نوع الرّياح، وشكل الرّمال، وبرد الليل، ومخاطرَ أرض ثمود، وبركاتِ بئر صالح.
* "لا أجد ما أحملكم عليه"
نحن سبعةٌ من فقراء المدينة. فقراء، لكنّنا نعشق القتال إلى جانبِ النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعليّ عليه السلام. جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نمشي بخجلِ أهل الطّلب: "يا أبانا، إنا لا نملكُ قوتاً ولا خيلاً للمسير".
- "نتوسّلُ إليك إلّا ما هيّأت لنا ما يُمكِّننا من الخروجِ معك".
- "وإذا كان لا بدَّ للمقاتلِ من أن يتناوب مع مقاتلَين آخرَين على فرسٍ واحدة، فنحنُ السّبعة تكفينا فرس واحدة نتعاقبُها طول الطريق".
سمع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم برأفتهِ كلامنا، ثمّ أجابنا مُعذِراً إيّانا: "لا أجدُ ما أحمِلكم عليه يا سالم"! كانت تلك الكلمات كفيلة بأن تفيضَ أعينُنا من الدّمع؛ حزناً وأسفاً على حرماننا شرفِ السَّفر، فنحن وحدنا من لا نفقةَ لدينا، ولا مَن يضمنُنا عليها. بكينا حتّى ابتُلّت لِحانا، حتى كأنَّ المطر قد سقى وجوهنا.
* "سنمضي على بركة الله"
- "ألهذا الحدِّ أنتَ من أهل الحرمانِ يا سالم؟! ما الجريرة التي اقترفتها كي يُضربَ بابٌ بينك وبين الجهاد؟! أأتبعهم ولو حبواً فوق رمال الصّحراء؟ كيف سأحتملُ المكوث جليس الأرصفة، والنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ماضٍ إلى شُقةٍ بعيدة؟!". وفجأةً، هتفَ المنادي: "سنمضي على بركةِ الله، ويبقى في المدينةِ أخُ الرّسول ووزيره ووصيّه، نائباً تامَّ النّيابة".
- "أيخرجُ النبيُّ من دونِ عليّ؟".
- "لقد ملّهُ فأبقاه".
قلتُ في سرِّي: "نعم، فلْيبقَ عليّ، فالذين اعتذروا وبقَوا في المدينة، لا بدَّ من وجود شخصٍ كعليٍّ بينهم ليقفَ في وجه فِتَنهم. واللهِ ما تركهُ مللاً ولا استثقالاً ولا تخفّفاً". كان عليٌّ حينها بين يدي حبيبه، والحبيبُ يقولُ والشهودُ ثلاثون ألفاً: "يا عليّ، المدينة لا تصلحُ إلا بي أو بك".
* عليّ عليه السلام يراقبهم
انطلقَ أكبر جيشٍ عرفهُ تاريخ الدّعوةِ إلى "تبوك".
مرَّ أربعون يوماً على خروجِ الجيش، لا أخبارَ تصل. كلّ ليلةٍ يمرُّ في خاطري ألف سؤال: "تُرى، ما حالهم يا سالم؟ ماذا يأكلون؟ هل يشربون؟ ماذا فعلت بهم ريح الصحراء السّامة؟ هل وصلوا؟ هل انتصروا؟ هل ينامون؟ كيف واجهوا جيش الروم؟". وفي كلِّ ليلةٍ كان عليٌّ عليه السلام ينشرنا حرّاساً على المدينة، ويمضي لخدمة عيالِ المجاهدين.
خلال أربعين يوماً، ظهرت مقدرة عليٍّ عليه السلام في إدارةِ البلادِ والعباد، في القضاء وحلِّ المُشكلات، ومساعدة الفقراء، وإقامةِ الفرائض، والصلاةِ في مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والعناية بالأسواقِ والتجارة وبيت المال، ومساكن الناس، وهمومهم، وأحلامهم... ثمّ يجلسُ إذا ما انتهى رافعاً كفّيهِ للغازينَ بالدعاء.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُدرك أنَّ المنافقين سيستغلّون الفرصة، ويقومون بانقلابٍ على مركز الدولة الإسلاميّة، فهو مضى إلى أبعد نقطة خرج إليها في كلّ الغزوات. وما أزعجهم هو بقاء عليٍّ عليه السلام في المدينة، فبوجوده لا انقلابات. راقبَ عليٌّ عليه السلام تحركاتهم؛ تسعون رجلاً من المتخلفين أحبطهم عليٌّ عليه السلام وحده. عطَّل التجارةَ والأخذَ والعطاء معهم، فكسُدَت بضائعُهم ولم يشترها أحد، وعملَ مع أقرباء المتخلّفين على قطع الرّوابط بهم، فتركوا حتّى الحديث العابر معهم. فعلت مقاطعة الناس للمتخلّفين فعلتها، حتّى ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت.
ولما انتصف شهر الصّيام، عمَّ خبرٌ أرجاء المدينة: أشرف النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على الوصول!
* عطر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
كُنا سبعةً من الفقراء، دلفنا ناحية الجيش وأعيننا ما زالت تفيض من الدّمع. احتضنتُ عطر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وصدى مقولتهِ في الجيش: "لقد تركتم في المدينة رجالاً ما سرتم في مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم وادياً إِلاّ كانوا معكم فيه".
- "واللهِ، كنّا كذلك يا رسول الله، لم تمضِ لحظة لم نفكّر بكم فيها، سرنا معكم، وأنفقنا الدمع والجهد والحسرة، وقطعنا الوديان بينكم، وكنّا مع عليٍّ عليه السلام زادنا الشعير، وحبّات تمر، نلوك (نمضغ) التمر حتّى إذا أحسَسْنا بطعمه نتركه، ونبلّ ألسنتنا بالماء ولا نشرب، مواساةً لكم، وإذا كنّا لذلك معكم، فكان عليٌّ عليه السلام أكثرنا في (تبوك)".