الشهيد السعيد مرتضى مطهري
شهر رمضان الأخير أتي على علي عليه السلام يحمل معه أياماً مختلفة وصفاءً آخر. ومع أمل بيته بدأ هذا الشهر من يومه الأول موائماً للقلق والاضطراب لأن أسلوب علي عليه السلام اختلف في هذا الشهر عن غيره من الشهور.
أذكر لكم في مقدمة الكلام إحدى صفاته البطولية الموجودة في نهج البلاغة؛ يقول علي عليه السلام:
لما أنزل الله سبحانه قوله: ﴿ألم، أُحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون﴾
علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا. فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟ قال: يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي. فقلت: يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عنّي الشهادة، فشقّ ذلك عليّ (حيث استشهد سبعون نفر من المسلمين، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب) قلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك؟ فقال: إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟ قلت: ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر.
وهكذا على أثر الأخبار التي سمعها الأمير عليه السلام من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والعلامات التي كان يعرفها ويظهرها أحياناف، عم الاضطراب والقلق بين أهل البيت والأصحاب المقربين. لقد كان يقول أشياء عجيبة. وفي هذا الشهر المبارك كان يفطر في بيوت أبنائه؛ ففي كل ليلة كان ينزل ضيفاً عند أحد منهم... ويأكل أقل من الجميع. فيتألمون له ويسألونه أحياناً: لماذا تأكل يا أبانا هذا المقدار فق؟ فكان يجيبهم: أريد أن ألاقي الله وأنا جائع. كان الأبناء يعرفون أن علياً في حالة انتظار.
كان يتطلع إلى السماء أحياناً ويقول حبيب رسول الله الذي أخبرني، ولقد صدق القول؛ كلامه ليس كذباً قريباً في الثالث عشر من الشهر تكلم علي وتحث عن شيء زاد من اضطرابهم وقلقهم أكثر من أي وقت مضى... بنيّ حسين! كم بقي من هذا الشهر؟ فقال له الحسين: 17 يوماً. فقال عليه السلام: أجل، فعم قريب تتخضب هذه اللحية بدماء هذا الرأس.
ثم مرت الأيام حتى التاسع عشر. وكان الحسن والحسين قلقين فذهب الحسن في منتصف الليل إلى مصلى والده.
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يحبها ويميزها كثيراً. قال الأمير لابنه: ملكَتْني عيني وأنا جالس فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ماذا لقيتُ من أمتك من الأود واللّدد! فقال: ادع عليهم. فقلت: أبدَلَني الله بهم خيراً منهم، وأبدلهم بي شراً لهم مني.
يا علي! كم قد خذلك أولئك القوم، وجرّعوك الغصص. أصحاب عائشة أولئك، وذلك معاوية ودهاؤه وجرائمه وليس ذلك وحسب، بل جاء الخوارج، أولئك المتقدّسين والمتحجرين إلى علي يكفونه ويفسّقونه.
وتعرفون كم لهذه الجملة من أثر حين يخرج علي عليه السلام، والديكة تصيح فيقول: دعوهن فإنهن صوائح تتبعها نوائح. فيقف الأبناء ويقولون: أبانا، لن ندعك تذهب إلى المسجد، يجب أن ترسل أحد غيرك. لقد قال الأمير في البداية: قولوا لجعدة بن هبيرة ابن أختي أن يذهب للصلاة جماعة. ثم نقض كلامه فوراً وقال: بل أنا أذهب. فقالوا: ليكن أحد برفقتك.
أجابهم: كلا؛ إنني ذاهب وحدي.
كانت تلك الليلة عند علي ليلة صفاء، الله يعلم كيف كانت روحه. يقول علي عليه السلام: "كم أطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبى الله إلا إخفاءه".
ثم يؤذّن أذان الصباح: وبعده يودع الفجر ويقول: أيها الصباح! ماذا أحضرت لعلي. فإذا نزل أنشد هذه الأبيات:
خلوا سبيل المؤمن المجاهد | في الله ذي الكتب وذي المشاهد |
في الله لا يعبد غير الواحد | ويوقظ الناس إلى المساجد |
لم يكن مسموحاً لأهل البيت أن يتحركوا من مكانهم إلا أنهم كانوا مثل الأيام الماضية مستيقظين، مضطربين، فماذا يحمل لنا هذا الليل؟ وفجأة علا صوت ملأ الأرجاء:
تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست أعلام التقى، وانفصمت العروة الوثقى، قتل ابن عم المصطفى، قتل الوصيُّ المجتبى، قتل علي المرتضى، قتله أشقى الأشقياء.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.