مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مع العلامة الطباطبائي في أثره الخالد "رسالة الولاية"



آية الله جوادي الآملي


* الموت الإرادي والموت الطبيعي:
إنّ أثر "الموت الإرادي" ليس أقل من أثر الموت الطبيعي بل أحياناً هو أشدّ من أثر الموت الطبيعي، فمن الممكن أن يموت الإنسان موتاً طبيعياً ولكنّه لا يجد الطريق إلى أسرار العالم ولا يبصر الحقائق. مثلما هم الكفّار والمنافقون، إنّهم محرومون من رؤية الكثير من الحقائق بعد الموت أيضاً. فهم يستعينون ببعض الأسماء الجلالية قائلين:  ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ (السجدة/12)، وإلاّ فهم محرومون من مشاهدة جمال الحقّ ولقائه:  ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (المطففين/15)، إنّهم يفتقرون إلى حاسة السمع الباطنية والقلبية، وليس بإمكانهم سماع "كلام الله"، بل وغير لائقين لأن يتوجه إليهم نظر الله التشريفي وغير مؤهلين للنظر إلى جلال الله وجماله بوصفه رحمة مطلقة، لذلك يقول عزّ من قائل عن هؤلاء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾  (آل عمران /77)، لأنّهم محرومون من مشاهدة جمال الله وجلاله. وإنّ الحجاب الذي يقف حائلاً بينهم وبين الله سبحانه هو أنفسهم، كما ورد عن الأئمة المعصومين. إذ لا يوجد حجاب بين الله والخلق. وقد ورد في روايات كثيرة عن الأئمة عليهم السلام بأنّه: "ليس بينه سبحانه وبين خلقه حجاب غير خلقه". فالذي غرق في ذاتيته هو في الحقيقة يحبّ نفسه ولم يتعرّف إليها، إذ أنّه أضاع ذاته الأصيلة لوم يعِها، واتجه إلى ذاته المجازية واهتمّ بها. وبهذا الشأن يصف القرآن هؤلاء بقوله:  ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(آل عمران/54)، فهم بفكر ذاتهم الحيوانية فقط، وقد نسوا ذاتهم الأصيلة والأصلية، ولأنّهم  ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الحشر/19).

فهذه المجموعة التي نسيت أصالة ذاتها وأضاعت إنسانيّتها، لا تفكّر بغير نفسها، أي بغير ذاتها الطبيعية وذاتها الحيوانية. إنّها محجوبة بحجاب ذاتها إلى درجة لا تستحقّ أن ينظر إليها الحق المتعالِ رغم أنّه سبحانه (بكلّ شيء بصير). كما أنّها غير مؤهلة لرؤية الله تعالى على الرغم من أنّه تعالى شأنه ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾. فأية درجة من العمى يكون فيها الإنسان لكي لا يرى "نور السماوات والأرض"، ولا يتمكن من مشاهدة ذلك الذي  ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيم﴾ (الزخرف/84). فأية درجة من العمى هذه التي لا يتمكّن فيها من مشاهدة نور السماوات والأرض، وأي حرمان هذا الذي هو فيه لكي يحول دون نظر الإله إليه الذي هو (بكلّ شيء بصير). لا يتذكره الحق المتعال الذي هو (بكل شيء عليم)، ولا يلتفت إليه التفاتة غنىً. إنّ هذا النوع من الأفراد محجوبون إلى الأبد، أمّا أولئك الذين لا تأسرهم الحجب ولا الحرمان، ويسلكون طريق الأنبياء ويشاهدون الحقّ المتعال في الدنيا بعين القلب، فقد وعدوا برؤيته والنظر إليه سبحانه.

* لقاء الحق لا يختصّ بالقيامة:
تحدثت الكثير من آيات القرآن الكريم عن مسألة "لقاء الحق"، وإن هذا اللقاء لا يختصّ بيوم القيامة، بل يكون أكثر بروزاً وتجلياً في يوم القيامة. فالله سبحانه عرّف نفسه، كما نصّت عليه أواخر سورة فُصّلت، بقوله جلا وعلا:  ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾ٌ  (فصّلت/53).
يورد المرحوم العلامة – رضوان الله تعالى عليه – معنىً لهذه الآية في "رسالة الولاية"، لا يطابق المعنى الذي يسجله لها في تفسيره "الميزان"، إذ يقول: (حتّى يتبيّن لهم أنّه الحق)، يعني يتضح لهم أنّ "الله الحق" ففي التفسير أرجع الضمير إلى القرآن، أما في "رسالة الولاية" فإنّه يرجع الضمير إلى الله إذ يقول: يتضح لأولئك بأنّ الله الحق. ثمّ يشير إلى معنى الآية المباركة: (أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد) بقوله: الشهيد بمعنى المشهود وليس الشاهد. الله سبحانه مشهود فوق جميع الأشياء. فالإنسان في كلّ الأشياء التي يراها، يرى في البدء الله ثمّ ذلك الشيء، لأنّ عبارة "هو الظاهر" لم تدع محلاً لظهور الغير. إنّ لكلّ شيء مراتب ودرجات، وإذا ما اجتزنا درجته الأولى ووصلنا إلى الدرجة الثانية فهناك أيضاً يرى الإنسان في البدء الله ثمّ الدرجة التالية. وهكذا في الدرجة الثالثة، يكون الله هو المشهود أولاً ثمّ الشيء الآخر. وممّا لا شكّ فيه أنّ الإنسان سوف لا يرى غير الآيات الإلهية، كل ما يراه آيات إلهية وصورة "مرآتية"، والمقصود بالصورة المرآتية هي الصورة نفسها التي يراها الإنسان بواسطة تلك المرآة. فالمرآة الحقيقية هي تلك الصورة، وليس الزجاج الزئبق والإطار والحجم وأمثال ذلك، التي تشكّل مجتمعة ما يصطلح عليه عرفاً بالمرآة. "المرآة" تعني وسيلة الرؤية، ونحن نبصر المرأى الخارجي ونراه من خلال الصورة التي في المرآة. إذن فنحن بواسطة هذه الصورة نبصر الحقيقة الخارجية، لأنّ الله سبحانه أبان الطريق أمام الجميع، وإنّ بإمكان الآخرين أن يشاهدوا ما يشاهده الأنبياء الإلهيون، غاية الأمر هو أنّ ذلك يتحقّق مع مراعاة مراتب الوجود ودرجاته. وإذا كانت مسألة لقاء الحق مطروحة في يوم القيامة، فإنّها محسوسة بصورة جيّدة بالنسبة "للمؤمنين" في الدنيا أيضاً.

بناءً على هذا، يتضح أنّ الكفّار محرومون من الكثير من الحقائق في الموت الطبيعي أيضاً. أما أولياء الله، مثل "زيد بن حارثة"، فقد شاهدوا في الدنيا وقبل الموت الطبيعي الكثير من الحقائق من قبيل الجنّة وأهل الجنّة، وجهنّم وصراخ أهلها وعويلهم، والكثير من أسرار ما بعد الموت، إذ يصفه رسول الله (عليه آلاف التحية والثناء) بأنّه "عبدٌ نوّر الله قلبه"، فيأمره بالثبات والاستقامة.

*معرفة النفس أفضل سبيل للمشاهدة:
تعد معرفة النفس وتهذيبها ووعي الذات، أفضل سبيل لمشاهدة أسرار العالم، إنّه سير واسع الآفاق كثير الفائدة. ولكن ذلك، وعلى حدّ قول المرحوم العلامة، طريق فكري وعلم مكتسب.. إنّ أفضل سبيل لمعاينة أسرار الكون هو سبيل النفس، بأن يتعرّف الإنسان على نفسه من خلال العلم الشهودي، لأنّ حقيقة الإنسان "فقر مطلق"، وإنّ هذه الحقيقة تستند إلى إلهه. فليس باستطاعة الإنسان أن ينظر إلى شيء هو عين الربط والفقر المطلق بالمشاهدة الحضورية، دون أن يشاهد "مقوّمَهُ" و"قَيّمه". ولهذا فإذا ما تعرّف الإنسان حقيقةً إلى نفسه، فبالتأكيد سوف يتعرّف إلى إلهه. أساساً إنّ شهود النفس غير متيسر بغير شهود الله سبحانه، لأنّ النفس حقيقة مرتبطة ذاتاً بالله، وكما تفيده المفاهيم المكتسبة، فإنّ معرفة النوع غير متيسرة بدون معرفة الجنس والفصل – الذي هو مقوّمه – ففي المعاني والحقائق الحضورية، تعتبر معرفة أي وجود خارجي أمراً محالاً من غير معرفة وشهود "قيّم" و"مقوّم" وجوده. واستناداً إلى هذا الأساس وهو أنّ الإنسان من غير الممكن أن يشاهد الحقيقة الوجودية من غير مشاهدة قيّمها ومقوّمها، يقول المرحوم الأستاذ العلاّمة الطباطبائي –رضوان الله تعالى عليه-: إذا ما شاهد الإنسان نفسه فإنّه بالتأكيد سوف يشاهد الله سبحانه، ويعتبر هذا أفضل سبيل "للولاية" وبشهود جمال الحقّ وجلاله.

* سبيل معرفة النفس:
إذا أراد الإنسان أن ينظر إلى نفسه، فإنّ السبيل إلى ذلك هو أن يعي عجزه وفقره؛ وإذا ما أدرك عجزه وفقره فسوف لا يركن إلى نفسه، ولا إلى الآخرين. وإنّ هذا السبيل لا يمكن طيّه بدون التوحيد، بل إنّ السبيل الولاية أساساً هو سبيل التوحيد، وأن أسلوب طي هذا السبيل هو أنّه إذا ما وعى الإنسان أنّه فقر مطلق وشاهد أنّه "ربط محض" وليس "ذاتاً مرتبطة"، سوف يدرك أنّه "فقر مطلق" وليس "ذاتاً مفتقرة"، مثلما هو الله سبحانه "غنىً مطلقٍ" وليس "ذاتاً غنية"، وإنّ الغنى ليس وصفاً مضافاً إليه.
وإذا ما كانت الذات مفتقرة، ووصف الفقر ملازماً لها، ولأنّ الوصف دون مرتبة الموصوف، فإنّ ذلك يستلزم انعدام وجود الفقر في مقام الذات، فستكون الذات غنية ومستقلة. في حين أنّ الإنسان ذاتاً عبدٌ لله وفقر مطلق وربط صرف.

* معرفة النفس أساس مراتب التوحيد:
بناءً على هذا فإذا ما رأى الإنسان ذاته بهذه الصورة، فإنّه سيرى أفعاله فانية في فعل الفاعل المستقل الذي هو الله سبحانه، وسيتضح له أنّ بقية الموجودات أيضاً لا تمتلك استقلالها، ولأنّها غير مستقلّة فإنّ فعلها فانٍ في فعل الله سبحانه، وبالضرورة أنّ الأفعال القبيحة والمعاصي والشرور والذنوب ونظائر ذلك – لأنّها تعود في جذورها إلى النقص والزوال – ليست في حاجة إلى مبدأ ذاتي، وكونها كذلك فهي لا تستند إلى الله سبحانه ولن تنتهي بذات الإله الأقدس، كما هي الحال بالنسبة للأفعال الوجودية والكمالية والخيرية. ذلك أنّ هذه الأفعال منحصرة بالله سبحانه بشكل خاص. إنّ كلّ فعل خير مهما كان فاعله فانٍ في فعل الله سبحانه، وهذا هو أساس "توحيد الأفعال". فتوحيد الأفعال يعني أنّ الإنسان الموحّد يصل إلى مرحلة يرى فيها جميع أفعال الخير، مهما كان فاعلها، فانية في فعل الله سبحانه لا غير.
وإذا ما وصل الإنسان إلى مقام توحيد الأفعال، فسوف يسمح لنفسه بالقول: إنّ العالم في ظلّ تدبير "ربوبية ربّ العالمين"، لأنّ نفسه وأفعاله وأوصافه تعتبر أدوات لأفعال الله سبحانه وأوصافه الفعلية؛ كما أنّه سيشاهد بقية الموجودات على هذا النحو أيضاً. وبالتأكيد إذا ما رأى فعله فانياً في فعل الله سبحانه، وشاهد أفعال بقية الفاعلين أيضاً فانية في فعل الله سبحانه، فإنّه حينذاك لا يركن إلى نفسه ولا إلى الآخرين، فمثل هذا الإنسان يتحرّر من مرحلة الثقة بالنفس ونظائر ذلك، يتحرّر من هذا النقص، ويصل إلى مرحلة الثقة بالحقّ المتعال.

وإذا ما تجاوز توحيد الأفعال، الذي يطلق عليها "فناء الأفعال"، يصل إلى توحيد الصفات الذي يسمّى بــ"فناء الصفات". وطالما لم يشاهد الإنسان صفاته وصفات الآخرين فانية في صفات الله سبحانه، فلن يكون موحّداً صادقاً. لأنّه إذا كانت لله أوصافٌ كمالية، وكانت هذه الأوصاف مطلقة ليس له حدود، فلا معنى لأن تضاف صفة إلى أوصاف غير محدودة. فإذا كان الله سبحانه عليماً، وليس لعلمه هذا حد، فلا معنى لأن نقول أنّه يوجد إلى مصاف علم الله غير المحدود علم الآخرين أيضاً، إلاّ أنّه علم محدود. فليس صحيحاً أن يقال إنّ علم الله غير محدود، وعلم الآخرين غير محدود، وعلم الله مستقل وعلم الآخرين بالغير؛ لأنّه لو كان في قبال علم الله علم – ولو كان محدوداً – فهذا يستلزم محدودية علم الله سبحانه. فإذا كان العلم مطلقاً فإنّه لن يترك مكاناً لظهور علم آخر. غير المحدود والمطلق، يعني أنّه ليس له نهاية وليس له حدود حتّى نقول هذا علم الله وهذا علم خلق الله، وممّا لا شكّ فيه أنّ الإنسان إذا ما رأى صفات الله لا تحدّها حدود، فسيشاهد أيضاً جميع الصفات فانية في صفات الله سبحانه، ومثل هذا يمسي فناءً للصفات وتكون ثمرته "توحيد الصفات". فإذا ما كان الإنسان موحّداً في مرحلة الصفات، فإنّه سيشاهد جميع الأوصاف فانية في صفات الله سبحانه.

وإذا ما ذهب الإنسان أبعد من هذه المرحلة، فسيصل في الواقع إلى باطن العالم وباطن الدين، ومن هذا الباطن يتضح له ويشهد باطناً آخر وعمقاً آخر أيضاً، وهذا هو "الفناء الذاتي" الذي لا يعترف بوجود مستقل لأيّة ذات. يرى جميع الوجودات والذوات فانية في هذا الوجود المحض والذات المطلقة. فإذا كان وجود الله سبحانه غير محدود، ففي قبال هذا الوجود لا يصحّ فرض وجود آخر سواء كان محدوداً أو غير محدود، كما أنّه لا يمكن فرض وجودين غير محدودين، كذلك لا يمكن فرض وجود لغير محدود وآخر محدود، لأنذ الوجود غير المحدود لا يترك مجالاً للوجود الآخر المحدود. وحينذاك يشاهد جميع الوجودات فانية في وجود الله سبحانه، نظير "الصور المرآتية" التي تعكس ما هو موجود ذاتاً، وهكذا يصبح العالم بأسره آيات إلهية.

* عالم الإمكان آية إلهية:
من التعابير البليغة التي كان المرحوم العلامة – رضوان الله تعالى عليه – يصرّح بها مراراً: إنّ ما يفيده القرآن الكريم هو أنّه يعد عالم الإمكان آية. ففي قوس النزول يُعدّ كل من عالم العقول والنفوس والطبيعة آية. وفي قوس الصعود يعتبر كل من عالم الطبيعة وعالم المثال وعالما لعقل آية أيضاً. فليس في العالم شيء سوى كونه آية – فالآية – من حيث كونها علامة – تشير إلى الغير فحسب دون أن تدلّ على نفسها. والعالم يفتقر للمَعْلّم قطعاً لكي يتمكّن من أن يكون مؤشراً على الآخر الفاقد للعلامة. ولكن كون الإنسان فاقداًللعلامة هو من باب "سالبة بانتفاء الموضوع" على حد قول المناطقة، وإن عدم امتلاك الله سبحانه للعلامة هو من باب "سالبة بانتفاء المحمول"، أي ليس باستطاعة الشيء الدلالة على أحقيته. وإن ما ورد في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – عليه أفضل صلوات المصلين – قوله: "ما لله آية أكبر مني"، لا يعني أنّنا ندلّ على الله سبحانه كما هو موجود، لأنّ حقيقة هوية الحق لم تظهر، وليس بوسع أحد أن يجد الطريق إليها:  ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ . لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ﴾  (آل عمرا/27 و28). فذلك المستأثر الذي لم يظهر، ليس له آية ولا مرآة ولا علامة.

فإذا ما وصلت النفس إلى هذه المنزلة، وأصبح التوحيد الذاتي من نصيبها، أي بدأت تشاهد جميع الذوات فانية في ذات الحق، والذي يطلق عليه بــ"الفناء الذاتي"؛ فإنّها تمسي في أعلى مسيرة الولاية وتشاهده، فالذات هنا لا ترى نفسها ولا ذوات الآخرين، وإنّما تنظر فقط إلى ذات واحدة وهي ذات الإله الأقدس، وهذا هو "الفناء الذاتي".

* الفناء الذاتي عدم رؤية غير الحق:
لا يعني الفناء الذاتي انتهاء الإنسان وزواله، لأنّ الانتهاء والزوال والعدم نقص وليس كمالاً، في حين أنّ أسمى درجات الولاية الإنسانية هي الفناء الذاتي.. "الفناء الذاتي" يعني أن لا يرى الإنسان ذاتاً غير ذات الإله المقدسة، لا يرى ذاته ولا صفته ولا فعله ولا نظره ولا عرفانه ولا خلوصه ولا إخلاصه. وفي هذا المجال تذكر لابن سينا عبارة بليغة ومعبّرة يقول فيها: "من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني". فالعارف إذا ما كان موحّداً ويكون توحيده كاملاً بحيث لا ينظر حتّى إلى عرفانه، فإنّه ليس فقط لا يبصر أحداً أو شيئاً، بل لا يرى حتّى نفسه ولا عرفانه، وكلّ ما يراه هو "المعروف" فحسب.

* كلام في باب الفناء الذاتي:
يقول صدر الدين القونوي في مفتاح الغيب أنّه، إذا ما وصل الإنسان إلى مقام الإخلاص فإنّه يجد الخلاص من رؤية الإخلاص أيضاً: "من رزق الطهارة عن الإخلاص فقد منح الخلاص". وهذا يعني أن العباد المخلصين، الذين نالوا أعلى درجات الكمال، عندما يجدون الطريق إلى الخلاص الكامل، بحيث لا يرون حتّى إخلاصهم"، يصبحون من المطهرين وإذا ما كانوا يرون إخلاصهم فهذا يعني أنّهم ما زالوا في الطريق إلى الطهارة التامة. وإذا تحرّر الإنسان من مشاهدة الإخلاص أيضاً، وصل إلى الخلاص الكامل. وهذا هو الإنسان الكامل، فمثل هذا الإنسان موجود وليس فانياً. إنّ مقام "الفناء الذاتي" لا يعني فناء الذات لأن فناء الذات نقص، بل هو تكامل الذات وكمالها.

فلا ذات غير ذات الحق، ولا صفات إلاّ صفات الحق، ولا أفعال سوى أفعال الحقن والإنسان الذي أحرز هذا المقام هو "ولي الله المطلق". وبالقدر الذي يجد طريقه إلى هذا المقام، يعيش معنى الولاية، فهو قد عرف نفسه وعرف العالم جيداً، لذا لم يكن راكناً إلى نفسه ولا إلى العالم، بل يلوذ بإلهه ويتوكّل عليه، ويدعو السالكين عبر سيرته وقلمه، إلى طيّ هذا الطريق وإحراز المقام نفسه.
وإنّ السبيل لنيل هذه المنزلة هو العمل بالاعتباريات، أي الاستعانة بمظاهر الشرع، وعدم الانخداع بالدنيا، والذي يدعو الإنسان إلى نفسه، والتفكير بالدنيا وبكلّ ما يبعد الإنسان عن الله، إنّ معرفة الدنيا والتحرّر من مكائدها هما اللذان يقودان إلى "الولاية". وإنّ هذه المرحلة غير ميسّرة بدون معرفة النفس ومحاسبة النفس ومعرفة مرات الذات. ومن هنا ينقل العلاّمة في هذه الرسالة الشريفة "الولاية"، الكثير من الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) عموماً وعن أمير المؤمنين – عليه أفضل صلوات المصلين – بشكل خاص، بشأن معرفة النفس ودعوة الناس وترغيبهم في ذلك من قبيل: "أنفع المعارف معرفة النفس"، وإذا لم يعرف الإنسان نفسه لم يعرف العالم الخارجي مطلقاً.

* العلامة الطباطبائي من الأولياء الإلهيين:
لقد سعى المرحوم الأستاذ العلاّمة الطباطبائي – رضوان الله تعالى عليه – إلى معرفة نفسه، وحينها عرف العالم الخارجي بمقدار معرفته بنفسه. لقد عرف إلهه بمقدار معرفته نفسه، وأوفى بعهده مصداقاً للآية الشريفة: (الذين جاهدوا فينا). والله سبحانه أوفى بما وعد مصداقاً للآية  ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت/69).. أوفى بعهده فكان (من يؤمن بالله)؛ وأوفى الله سبحانه بقوله (يهد قلبه).. هو وفّى بعهده فكان مصداقاً للآية (إن تطيعوه)، والله سبحانه أحظاه بما وعد فكان مصداقاً للآية (تهتدوا)، وبالتالي أمسى أحد الأولياء الإلهيين الذين  ﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون﴾َ (يونس/69)، و﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾  (الرعد/29).
لقد كتب العلاّمة معارفه الإلهية في ألواح قلوب المشتاقين، سواء عبر حياته وتصانيفه ومؤلفاته الفلسفية والتفسيرية، أو من خلال سيرته العلمية، إذ  ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾َ  (الأنعام/122)، كتبها بخط بديع، وجلاّها برسم مبدع، وستبقى خالدة إلى الأبد، لأنّه سعى من خلالها لأن يرِد النبع الزلال ويرتشف ماء الحياة المتمثل في القرآن الكريم وأهل بيت العصمة والطهارة.

يقول رسول الله – عليه آلاف التحية والثناء: "إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.."، الكتاب وأهل البيت هما ماء الحياة، هذان القدحان هما من كوثر واحد، من نبعٍ واحد، وهما متلازمان، فهما ماء الحياة ولا ينفذان مطلقاً، فالذي يكون في خدمة أهل البيت والقرآن المجيد يخلد إلى الأبد، لأنّ ماء الحياة هذا لا ينفذ ولا يزول... القرآن لا ينفك عن أهل البيت عليهم السلام، وأهل البيت غير منفصلين عن القرآن، أي لا يزول أي واحد منهما بمفرده أو مجتمعين، فهما باقيان حتّى يردا حوض الكوثر، لأنّهما نشآ من "الكوثر" ويعودان إليه... إنّ أصل ماء الحياة من "الكوثر"، والعودة إليه أيضاً، ومن المناسب هنا كحسن ختام، أن أنقل عبارة الأستاذ المرحوم "الهي قمشه اي" – رضوان الله تعالى عليه – الذي كان موضع احترام وتقدير المرحوم الأستاذ العلامة الطباطبائي كثيراً، إذ يقول المرحوم الأستاذ الهي قمشه اي – قدّس الله نفسه الزكية: إنّنا نأمل أن نقرأ "نهج البلاغة" إلى جوار حوض الكوثر بين يدي علي بن أبي طالب عليه أفضل صلوات المصلين.
نسأل الله سبحانه أن ينعم على سالكي طريق الحقّ بمقام الولاية والتعرّف على التوحيد ومراتبه.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع