يعتبر التدبير في الحياة من أهم الموازين الاقتصادية التي تنظم حياة الفرد ومعيشته، وتترك بصماتها على منهجية التفكير لديه، ما يساهم في حلّ الكثير من المشاكل النفسية كالهمّ والقلق... وذلك نتيجة ظروف الحياة. ويبتنى هذا التدبير على عدة مرتكزات، منها ما يساهم في إيجاد حياة سعيدة نتيجة استمراره، ومنها ما يساعد في وضع الفرد على طريق القناعة والرّضا للوصول إلى حياة نفسيّة سليمة من الأمراض النفسيّة والجسديّة.
*القناعة غنى
تمثّل القناعة المدماك الأساس للتدبير المنزلي داخل الأسرة، لأنها بالرضا، وعدم النظر إلى ما في أيدي الناس.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَنْ قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس"1.
ويخطىء من يظن أن القناعة تحصل لدى الإنسان، فيما إذا لم يكن يملك المال فيقتنع بما لديه، بل إن القناعة مبنيّة على حالة نفسيّة لدى الفرد، ولا يرتبط ذلك بما يملكه من مال أو عدمه.
*القصد والتدبير
كذلك نجد في الآيات الشريفة والروايات تأكيداً على أهمية القصد والتدبير في حياة الإنسان، لدرجة أنها بنت محبة الله تعالى على من اقتصد وتدبر، ولا تمنح هذه المحبة الإلهية إلا عندما تكون الصفة الأخلاقية لدى الإنسان في غاية الأهمية. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن القصد أمر يحبه الله عزَّ وجل وإن السرف يبغضه حتى طرحك النواة فإنها تصلح لشيء وحتى صبّك فضل شرابك"2.
إذاً، لا يمكن أن يتحقق الاقتصاد في العيش، إلا إذا اجتنب الإنسان حالة الضد، ألا وهو الإسراف، والذي يُعّرف بأنه: عبارة عن وضع الشيء في غير محلّه أو غير حاجته. وقد أشار الإمام علي عليه السلام إلى ذلك بقوله: "حسن التدبير مع الكفاف أكفى لك من الكثير مع الإسراف"3، وكذا: "حسن التدبير ينمي قليل المال، وسوء التدبير يفني كثيره"4.
وأيضاً جاء في كتاب لأمير المؤمنين عليه السلام إلى زياد "دع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدّم الفضل ليوم حاجتك"5.
يستخرج من هذا الحديث عدّة نقاط تساعد في عملية التدبير:
1 - ترك الإسراف طلباً للاقتصاد.
2 - أن يكتفي بحاجته فقط فلا يطلب غيرها.
3 - أن يفكّر بالغد ضمن تخطيط مسبق.
4 - أن يمسك ويستفيد من المال قدر حاجته.
5 - أن يقدّر الفضل والمهمّ ليوم حاجته.
*المعيار السليم للتدبير
لم يذكر القرآن ولا الروايات الشريفة حدّاً أو مقداراً محدّداً لحاجيات الناس، وإنما أُشير إلى معيار مرن يتناسب وحاجة الإنسان، فالحاجات تختلف بين الناس كلاّ على حسبه، وأمّا القصد والتدبير فهما حالة تتوسط رذيلتين هما التقتير والإسراف. ولهذا ذكر القرآن الكريم ضابطة هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ (الفرقان:67).
وقد شرح الإمام الصادق عليه السلام هذه الآية مبيّناً حالتي الإسراف والتقتير: "فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال هذا الإقتار الذي ذكره الله عزَّ وجل في كتابه، ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفّه كلها، ثم قال: هذا الإسراف، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام"6. أن ينفق الإنسان على نفسه وعياله بما يحتاجه فهو من القوام، وإذا امتنع وقتر في مورد يجب فيه الإنفاق أو أعطى أكثر من الضرورة والحاجة فهما من رذائل الأخلاق ويبغضهما الله تعالى. والروايات لم تذكر حداً للإعطاء أو الإنفاق، وإنما ذكرت الحاجة. وإلى ذلك أشار الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله إسحاق بن عمار: "يكون للمؤمن عشرة أقمصة قال: نعم، قلت: وعشرون؟ قال: نعم، وليس ذلك من السرف أن تجعل صونك ثوب بذلتك"7.
فحالة التدبير بهذا الشكل توجب الغنى، لذلك استحقت ضماناً من الإمام الصادق عليه السلام بالغنى يقول عليه السلام: "ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر"8. كما أن مقابلها توجب الفقر: "إن السرف يورث الفقر"9.
*الرضا راحة نفسية
إن الرضا عن الحياة، من الأمور التي تعزّز وجود توازن في الحالة النفسية لدى الإنسان، وكذا له دور كبير في إدارة حياته ونفقاته اليومية. قد يكون الإنسان غنياً، ولديه مال كثير لكن لا يجد في قلبه الرضا عن حياته، والعكس صحيح أيضاً. وليس المال مجلبة الرضا، وإنما الرضا يجلب الغنى النفسي وهو أعظم الغنى. فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ارضَ بما قسم الله لك تكن غنياً"10، وفي رواية أخرى أنه يؤدي إلى الراحة11. وهذه الراحة التي تذكرها الروايات عبّر عنها علماء النفس بأنها الحالة النفسية السليمة الخالية من الإمراض النفسية.
وعندما يعيش الإنسان مقتنعاً بوجود مدبّر غيره، ويطمئن بأنّ رزقه يأتيه من الله تعالى تهون عليه الأمور. ورد عن الإمام علي عليه السلام: "ما أعجب هذا الإنسان مسرور بدرك ما لم يكن ليفوته، محزون على فوت ما لم يكن ليدركه، ولو أنه فكر لأبصر، وعلم أنه مدبّرٌ، وأن الرزق عليه مقدّر، ولاقتصر على ما تيسّر ولم يتعرض لما تعسّر"12.
*كل ما فيها لا يكفيك
وبما أن هناك علاقة عبودية ورازقية بين العبد وربّه، فإن طبيعة هذه العلاقة تقتضي كون الله تعالى مدبراً لحياة الإنسان ولأمور معيشته، لكن مع العمل بالأسباب الطبيعية دون الركون إليها. فالنهل من الدنيا لا يروي الظمآن بل يزيده عطشاً، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإنّ أيسر ما فيها يكفيك وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك فإن كل ما فيها لا يكفيك"13.
وكذا كان من نصيحة الإمام الصادق عليه السلام لرجل شكا إليه أنه يطلب ولا يقنع وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر، فقال: "علمني شيئاً أنتفع به، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك"14.
إن حسن التدبير من الأمور المهمة التي يجب على الإنسان المؤمن الاتصاف به، لما يتركه من آثار إيجابية على معيشته وحياته ونفسيته، فهو يؤمن الإنسان من الندم والحسرة عن الإمام علي عليه السلام: "التدبير قبل العمل يؤمنك الندم".
وكذا قوله تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾ (الإسراء:29).
1- الكافي، الكليني، ج2 ص139.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج68 ص346.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2 ص1294.
4- عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمّد الواسطي، ص227.
5- نهج البلاغة، كتاب 21.
6- الكافي، م.س، ج4 ص55.
7- الوافي، الكاشاني، ج20 ص707.
8- م.ن، ج20 ص497.
9- الكافي، م.س، ص53.
10- بحار الأنوار، م.س، ج78 ص54.
11- يراجع: م.ن.
12- م.ن.
13- الكافي، م. س، ج1 ص146.
14- م.ن، ص147.