مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الصبر والإيثار في الشخصية الجهادية لأمير المؤمنين عليه السلام

الشيخ إسماعيل حريري

 



عليٌّ وما أدراك من عليّ!؟ هو صاحب الفضائل التي لا تعدّ ولا تحصى كنعم الله تعالى، بل هي من نعمه سبحانه وتعالى. فأينما ولّينا وجوهنا شطر هذه الشخصية الفريدة والعظيمة، وجدنا من صفات الحق والكمال ما لا رأته عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر. وكيف لا يكون كذلك وهو صنو رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيّه من بعده وخليفته على أمته؟! وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله أنّه قال: "إنّ الله تعالى جعل لأخي عليّ فضائل لا تحصى كثرة"(1). وممّا تميّزت به شخصية أمير المؤمنين عليه السلام وهو المتميّز في كل شيء الناحية الجهادية. وهذا أمرٌ معروف مشهور عنه عليه السلام، فقد آثر وأبلى في جهاده وصَبَر إلى أن بلغ الدرجات العلى في ذلك، فكان مثال المجاهد الصابر في ذات الله، المؤثِر في طاعته، بلا تعب ولا ملل ما دام ذلك في سلامة من دينه ورضىً من ربِّه. وسنذكر ناحيتي الصبر والإيثار في جهاده عليه السلام:

* صبره في جهاده في سبيل الله
من المعروف للمؤالف والمخالف أنّه عليه السلام سيد المجاهدين وإمامهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. وقد تحمّل في سبيل ذلك وصبر بما لا يقدر عليه غيره. وقد قال الله تعالى فيه: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (آل عمران: 17). قال ابن شهرآشوب في المناقب: "والدليل على أنها نزلت فيه أنه قام الإجماع على صبره مع النبي صلى الله عليه وآله في شدائده من صغره إلى كبره وبعد وفاته. وقد ذكر الله تعالى صفة الصابرين بقوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا (البقرة: 177)، وهذا صفته بلا شك"(2).

وقد كان عليه السلام صابراً في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله في كل حالات الجهاد، ابتداءاً من اليوم الأول للدعوة في وجه قريش وما لاقى من أذاها مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والثلّة الأولى من أهل الإسلام، فكان أنْ هاجر مع النبي صلى الله عليه وآله إلى الطائف وتحمّل معه وصبر على ما لحق بهما من أذيّة، من عتاة القوم وأراذلهم الذين وجّهوا صبيانهم ليرجموا النبي صلى الله عليه وآله بالحجارة إجابة لدعوته. وفي الحصار الذي فرض على المسلمين لمدة ثلاث سنين تقريباً في شعب أبي طالب، وقد كان عليّ في هذه المدّة يخرج من الشعب إلى مكّة سرّاً ليأتي بالطعام إلى المحاصرين(3). وفي حصار الشعب كان أبو طالب عليه السلام يطلب من ولده عليّ عليه السلام أن يبيت في مكان رسول الله صلى الله عليه وآله ليلاً، حرصاً على سلامته من الاغتيال والمباغتة من قبل الأعداء الذين قد يتسلّلون من خارج الشعب(4).

وكان عليّ عليه السلام لا يتأخر في الاستجابة لذلك صابراً محتسباً، فادياً نفسه من أجل الرسالة وصاحبها. ولم يكن لأحد أن يقوم بمثل هذه الأعمال في تلك الفترة العصيبة والقاسية، إلا من ملك جناناً ثابتاً وقلباً شجاعاً، ووعياً رسالياً وحبّاً متفانياً للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وصبراً على الأذى في ذات الله، ولو كان في ذلك ذهاب نفسه وإزهاق روحه. وهذا الصبر في جهاده عليه السلام، امتدّ إلى ما بعد حياة النبي صلى الله عليه وآله، حيث أُبعد عن حقّه الذي أعطاه الله تعالى إيّاه، وجعله في رقاب المسلمين إلى يوم القيامة.وقد صبر وآثر المسالمة حفظاً للدين وعملاً بوصية حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله. وفي ذلك يقول عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية بعد أن يذكر تقمّص غيره للخلافة وهو ليس أهلاً لها: "وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء... إلى أن يقول: فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذىً، وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً"(5). وقد كان صبرُهُ عليه السلام بوصيّة من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، فقد ورد في مناقب ابن شهرآشوب عن جمع من الصحابة أنّ النبي صلى الله عليه وآله اعتنق علياً عليه السلام وبكى، فقال له علي عليه السلام: ما الذي أبكاك يا رسول الله؟ قال: أبكي لضغائن في صدور قومٍ لن تبدو لك إلا من بعدي، قال: يا رسول الله، كيف أصنع؟ قال: تصبر، فإن لم تصبر تلقَ جهداً وشدَّة..."(6).

ولكم كان صبره عليه السلام شديداً وتحمّله عظيماً ممّا لاقاه من القوم بعد ارتحال النبي صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى. فقد أطبقت عليه الرزايا من جميع الجهات بعد أن انقلب النَّاس طمعاً بالدنيا وسعياً إلى زخرفها وزبرجها، فصبر على عظيمها أشد الصبر. وهل هناك أعظم من الهجوم على داره وفيها بنت المصطفى وبضعته وريحانته، وترتكب جريمة بحق آل الرسول صلى الله عليه وآله ولم يمض على مواراته سوى أيامٍ معدودات؟ وكل ذلك على مرأى من أمير المؤمنين عليه السلام. وقد صبر لأنه أُمر بالصبر، وبقي صابراً طوال خمسةٍ وعشرين عاماً أُبعد فيها عن حقّه الإلهي. ثم بعد تولّيه الخلافة، ارتدّ عليه طلاّب الدنيا والدرهم الذين تعوّدوا ممّن سبقه على الأكل من بيت مال المسلمين بلا حساب. فلمّا ردّهم، رفعوا السيف بوجهه، فصبر على جهادهم، من الناكثين، إلى القاسطين، وانتهاءاً بالمارقين من الخوارج. كل ذلك،وهو الصابر المحتسب في ذات الله عزَّ وجلَّ، إلى أن قضى الله تعالى له بالشهادة. وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث قال له: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك. إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذاً؟ فقال عليه السلام: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر"(7).

* الإيثار في جهاده عليه السلام:
إنّ صفة الإيثار من الصفات التي تميّز بها أهل البيت النبوي عليه السلام، وقد نزل في حقهم قرآن كريم كما في سورة (هل أتى)، قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (الإنسان: 8، 9) وهم المقصودون بقوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر: 9)(8). وإيثاره عليه السلام في الجهاد أمرٌ ظاهر للعيان من خلال ما وصلنا من سيرته الجهادية، فمن ذلك: إيثاره نفس رسول الله صلى الله عليه وآله على نفسه، ففداه بنفسه. وقد تقدّم أنّه عليه السلام كان يبيت ليلاً في فراش النبي صلى الله عليه وآله في شعب أبي طالب حفظاً لنفس الرسول صلى الله عليه وآله من اغتيال قريش. وقد تجلّى هذا الإيثار بأسماه ليلة هجرة النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وقد أخبره جبرائيل عن الله تعالى، بأن قريشاً قد ائتمروا به يريدون قتله وقد جمعوا من كل قبيلة شاباً ليتفرّق دمه بين القبائل، فأمره بالهجرة من ليلته وأن يبيت مكانه عليّ عليه السلام. وهنا، نرى صورة ناصعة من التضحية والفداء من أجل العقيدة الحقة والمبدأ الإلهي. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله عليّاً عليه السلام بأمر الله، فما كان جوابه إلا أن قال: "أوتسلم يا رسول الله إن فديتك بنفسي؟ فقال: نعم، بذلك وعدني ربي"، فتبّسم علي عليه السلام ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لله لِمَا أنبأه به رسول الله صلى الله عليه وآله من سلامته(9).

وصورة أخرى من الإيثار الجهادي ظهرت في معركة أحد التي كان النصر فيها بدايةً للمسلمين، إلا أنّ مخالفة بعض المسلمين لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وتخلّيهم عن مكانهم فتح ثغرة في جيش المسلمين جعلت خالد بن الوليد ينفذ منها من خلفهم ويبطش بهم. وفي هذه اللحظة أحاط المشركون برسول الله صلى الله عليه وآله يريدون قتله، فكان عليّ عليه السلام يستبسل في سبيل سلامة الرسول صلى الله عليه وآله، إذ كان يحمل الراية بيد والسيف بالأخرى يصدّ الكتائب ويردّ الهجمات عنه صلى الله عليه وآله، وكأنه جيش بكامل عدّته. وكان الرسول صلى الله عليه وآله كلّما رأى جماعة تهجم عليه، قال لعلي عليه السلام: يا علي، إحمل عليهم، فيحمل عليهم ويفرّقهم، وقد أثخنته الجراح في شتّى أنحاء جسده. وتروي السيرة أنه أتى جبرئيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله فقال: إنّ هذه لهي المواساة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّه منّي وأنا منه. فقال جبرئيل: وأنا منكما، فسمعوا صوتاً في السماء ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ(10). هذا هو عليٌّ، ولكن ليس هذا هو كل عليٍّ، إذ كيف يمكن أن ندرك بعقولنا القاصرة من لم يعرفه إلا الله والنبي صلى الله عليه وآله؟!


(1) ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي، ج1، ص144.
(2) بحار الأنوار، ج41، ص3.
(3) أعلام الهداية، ج2، ص61 عن شرح النهج لابن أبي الحديد.
(4) المصدر السابق، عن البداية والنهاية.
(5) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، ج1، ص30 31.
(6) بحار الأنوار، ج41، ص5.
(7) بحار الأنوار، ج41، ص7، ح8 عن نهج البلاغة.
(8) البرهان في تفسير القرآن، ج9، ص463 وما بعدها، ح6 وما بعده.
(9) أعلام الهداية، ج2، ص65.
(10) المصدر السابق، ص80 81 عن الكامل في التاريخ وغيره.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع