مقابلة مع وزير العمل محمد فنيش
حوار: عدي الموسوي
من خلال تجربته الطويلة في العمل النيابي، وتالياً في العمل الوزاري عبر مباشرته لمسؤوليات وزارتي الطاقة سابقاً والعمل حالياً، قدّم لنا معالي الوزير محمّد فنيش رؤيته وفهمه لمفهوم وثقافة ترشيد الاستهلاك، انطلاقاً من رؤية إنسانية وإسلامية للموضوع، وصولاً إلى ربط الترشيد بواقع حياتنا لا في بلدنا أو منطقتنا فقط بل على صعيد العالم ككل.
* منطلقات ترشيد الاستهلاك
* ما معنى مفهوم ترشيد الاستهلاك وما هي منطلقاته؟
لترشيد الاستهلاك عدة مفاهيم، وله عدة منطلقات قرآنية وأخلاقية. فمن ناحية، جرى النهي عن الإسراف والتبذير وعن أن يتصف الإنسان به كما جاء ذلك في الخطاب القرآني والأحاديث الشريفة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وآل بيته عليهم السلام. وهذا النهي يمكن تفسيره من منطلق أخلاقي، فليس هناك ما يبرر الهدر لمورد أو نعمة إلهية دون أن يكون هناك حاجة إلى ذلك. وهذا جانب تربوي مهم جداً في سلوك الفرد وفي الرؤية التربوية الإسلامية للمؤمنين الملتزمين. غير أن هذا البعد التربوي الأخلاقي لا يمكن فصله عن الأمور المعاشة للفرد والجماعة على حد سواء. وأنا أعتقد أن التطوّرات العالمية التي حصلت في الآونة الأخيرة تؤكد على أهمية الحث والتربية على هذا السلوك. أمّا المنطلق الآخر لترشيد الاستهلاك، فهو نابع من مسألة الإدراك لشح الموارد الحياتية، وضرورة المحافظة على استمرار توافرها لأكبر قدر ممكن من الناس.
وفي هذه الناحية، يمكننا أخذ مثال، وهو معبّر تماماً، مع الأزمات الاقتصادية العالمية الناجمة عن سوء الاستخدام والاستهلاك، وعدم الترشيد في الاستهلاك، وعن مخالفة مفهوم التنمية المستدامة، حيث أعتقد أن ترشيد الاستهلاك هو جزء من مفهوم التنمية المستدامة، حيث لا ينبغي لجيل من الأجيال أن يستهلك من الموارد ما هو حق لأجيال تالية له. فإذا أخذنا اليوم مثلاً - الثروة المائية، وتزايد حاجة البشرية لها مع ما يشهده العالم من ظاهرة الاحتباس الحراري، وازدياد في تصحر الأراضي، مع تراجع نسبة الأمطار وما يستتبع ذلك من نقص للمياه في كثير من مناطق العالم، فهنا، ومع غياب خطط وممارسات ترشيد الاستهلاك، فإن ذلك سينعكس سلباً على معيشة الناس وإدارة شؤون البلدان. وكذلك الأمر في موضوع مصادر الوقود التي هي اليوم محل اهتمام وقلق على المستوى العالمي، بسبب ما تواجهه من استهلاك مفرط لها في مقابل تراجع المصادر الطبيعيّة المنتجة لها، فضلاً عمّا يخلّفه هذا الاستهلاك المفرط من آثار سلبية على المناخ وعلى طبقة الأوزون. في لبنان مثلاً، وفيما يتعلّق باستهلاك الطاقة الكهربائية، فإننا نواجه مشكلة النقص في الإنتاج، وهناك عجز في البنية العامة، فضلاً عن الدعم المالي الكبير الذي تقدمه الدولة لهذا القطاع، فهنا إن لم يحصل ترشيد للاستهلاك، فهذا يعني زيادة في حدة الأزمة، وزيادة في ساعات التقنين، وزيادة في استنزاف المالية العامة للدولة.
* دعوة لحسن التنظيم والتدبير
* هل يمكن القول بعدم جواز استهلاك المرء لما لا يحتاج إليه؟
إذا ما فعّلنا مفهوم ترشيد الاستهلاك، وأدرجناه في سياق أبعاده المختلفة: الأخلاقية والتربوية التي حث عليه الإسلام، فإنها ستشكّل ضوابط لسلوك الفرد وسلوك الجماعة، لنستخلص مفهوماً تربوياً يتلخّص بعدم جواز قيام المرء باستهلاك ما لا يحتاج إليه. وهي هنا ليست دعوة للبخل أو الشح، بل لحسن التنظيم وحسن التدبير، وهي هنا استجابة لأوامر ونواهٍ إلهية بعدم التفريط بنعم إلهية وحرمان الآخرين من الاستفادة منها، فهو سبحانه قد ضمن للناس كل الأسباب التي تؤمِّن لهم أمور معاشهم، ولكن البشر هم الذين يسيئون عبر سلوكهم وتصرّفاتهم لأنفسهم وللآخرين.
* لا إفراط ولا تفريط
* من خلال قاعدة لا إفراط ولا تفريط، وكون ترشيد الاستهلاك هو نقطة وسط بين معادلة طرفاها البخل والشح من جهة، والإسراف والتبذير من جهة أخرى، كيف يمكن للمرء أن يقيّم أفعاله وسلوكياته لتكون في الوسط بين طرفي المعادلة؟
ـ البخل إذا أردنا أن نعرّفه، هو أن لا تجود بما تملك للآخرين لتلبّي حاجاتهم أو لتكرمهم، فالجود هنا بما يملكه الإنسان لا يدرج ضمن الإسراف طالما يصرف لتلبية حاجات الآخرين، فالمقصود بالإسراف هو أن تكون نظرة الإنسان في الحياة مبنيّة على تعلّقه بالملذات وإقباله عليها دون مراعاة الحدود التي تلبي حاجته فحسب، فيصرف ويهدر دون أن تكون لديه حاجة حقيقية. هذا شيء، ومسألة أن يكون المرء متمتعاً بصفات الكرم والجود شيء آخر، حيث صرف الموارد إنّما يكون تلبية لحاجات الآخرين الملحة وسعياً في إكرامهم، هنا نحن في سياق تلبية الحاجة.
* النِّعم ضمن الضوابط والحدود
* إذاً، أنت ترى أن الأساس في الاتجاه نحو الإسراف هو من خلال الرغبة في تلبية نداء الملذات؟
- بل الإقبال على الارتواء من الملذّات، فكلّما أقبل الإنسان عليها كلّما ازداد نهماً لها، فمثله - وكما يشبّهه الكثير من الأحاديث - كالإنسان الذي يسعى لأن يروي ظمأه بماء البحر الذي لا يزيده إلاّ عطشاً على عطش. ثم إن للإنسان حاجات ضرورية وفي تلبيتها أمر ضروري وطبيعي لاستمرار الحياة، وهو حق مشروع، كما يتضح ذلك من قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77)، فالله سبحانه وتعالى وضع الحدود، لم يحرم الإنسان من الاستفادة من النعم الإلهية، ولكن ضمن حدود وضوابط، منها ما هو تربوي وأخلاقي ونفسي، ومنها ما هو أساسي في تنظيم شؤون الاجتماع البشري. فهنا، وعند اطلاعنا على النسب المخيفة للفقر في العالم، نرى أن هناك فئات مجتمعية تعيش حالاً من الترف والتخمة والبطر، وهناك شرائح أخرى من الناس لا تجد قوت يومها، وهذا أمر منافٍ للعدالة ومنافٍ لما أمرنا به الله سبحانه وتعالى في أن نتحسس مشاكل الآخرين، وأن تكون هناك علاقات اجتماعية مبنية على التكافل والتوادِّ والتراحم، والاهتمام بأصحاب الحاجات.
* الرؤية الإسلامية لترشيد الاستهلاك
* كيف يمكن أن نؤسس لثقافة ترشيد استهلاك حقيقية، في حين نحن نعيش ضمن مجتمعات قد تنظر إلى الترشيد كشكل من أشكال البخل المعيب مجتمعياً؟
ـ هناك مسألة مهمة يجب أن نحددها أولاً، وهي أن هناك أحياناً عادات وتقاليد نابعة من موروث اجتماعي وهو لا يمت للثقافة الإسلامية أو قيمها بأية صلة. فمفهوم الكرم إسلامياً هو ليس في إقامة المآدب اليومية والتي يرمى منها في سلة المهملات بأغلب كميات الطعام التي استخدمت فيها، والتي ترى فيها بعض المجتمعات دلالة على الكرم الشديد، في حين هي - إسلامياً - ليست من الكرم في شيء، بل هي إسراف وتبذير. ولكن، إذا أردنا أن نأخذ ترشيد الاستهلاك بمعنى أعم، فإن ذلك يساعد على توضيح أبعاد النهي عن الإسراف ويساعد في معالجة الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، هذا فضلاً عن منع حصولها أصلاً. فكما أوضحنا، في ما سلف، تأثير الاستهلاك العشوائي لمصادر الطاقة وآثارها السلبية اجتماعياً وبيئياً واقتصادياً، أشير هنا إلى موضوع نعيش آثاره اليوم بشكل كبير، ألا وهو الأزمة المالية العالمية ، التي لو تأمّلنا بأسبابها ندرك أنه كان يمكن تجنبها من خلال اتباع الرؤية الإسلامية في ترشيد الاستهلاك، بل والرؤية إلى الدنيا والسلوك المطلوب اتباعه في مقاربة حاجات الإنسان لأموره المعيشية أو لتلبية ملذّاته، وهي ثقافة تساعد كثيراً في معالجة الكثير من الخلل الذي تشكو منه اليوم الدول والشعوب.
فواحدة من أسباب الأزمة المالية الحالية بكل تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية هو الفساد القائم في سلوك من هم قيّمون على إدارة الشؤون المالية، وانعدام الوازع الأخلاقي لديهم والنابع من القيم الدينية، بحيث يمنعه ذلك من الإقدام على مد اليد إلى المال العام أو مال الغير أو النهب. فالرؤية الإسلامية برأيي هي جزء من منظومة ثقافية تحتاجها البشرية وتؤكد الحاجة إلى ثقافة دينية وأهمية وجود الوازع الديني في حياة الإنسان. فكما أن القانون يمكنه أن يشكّل رادعاً للإنسان ينهاه عن الخطأ، فإن الإنسان فيما لو وجد ثغرات قانونية تمكّنه من ارتكاب المخالفات، وممارسة أشكال الفساد الإداري المختلفة دون محاسبة أو مساءلة دنيوية، فلن يمنعه أحد من مواصلة سلوكياته المنحرفة وبكل سهولة ومواصلة إضراره البالغ بالأفراد والمجتمعات، ما لم يكن هناك وجود لمانع أو وازع ديني أو ذاتي.
* السعادة في الترشيد
* بالعودة إلى البعد التربوي والأخلاقي لترشيد الاستهلاك، كيف يمكن أن ينعكس ذلك على بناء شخصية إنسانية متوازنة؟
ـ لقد ذكرت أن لثقافة الترشيد بعداً واهتماماً بالحياة الآخرة، هذا فضلاً عن أنها تعطي المرء القدرة على إدارة شؤونه بما يتلاءم مع إمكاناته، وفي جانب آخر نلاحظ أن العالم يشكو اليوم من عدم التوازن في حياة الناس، فالإقبال على الملذات يؤدي إلى الاستغراق في الماديّات، ويخفف من صفاء الفطرة الروحية للإنسان. وكلّما استغرق الإنسان وانغمس أكثر في الملذات، كلّما كان يندفع أكثر للبحث فيما يديم هذه الملذات، أو إلى طلب المزيد منها، ما يسبب عدم التوازن في شخصيته. ولذلك، نرى كثيراً من الناس ممن لديهم الإمكانات والأموال غير أنهم يشكون من افتقادهم للسعادة الحقيقية، والسبب هنا هو عدم وجود معنى للحياة أبعد من أن يرووا عطشهم من متع الحياة وملذاتها.
* الترشيد في العمل الإداري
* بالانتقال إلى ضوابط الترشيد في العمل الإداري، ومجال الإدارة العامة، كيف تنظر إلى مجالات الإنفاق وكيفيّته وفقاً لرؤية ترشيد الاستهلاك؟
- في العمل الإداري، هناك أمران يجب ملاحظتهما وتوافرهما، وهما: الرقابة وثقافة الترشيد، بمعنى أن الثقافة وحدها لا تكفي دون رقابة. فمجتمعاتنا عموماً- وللأسف - تشكو من تراجع كل من الرقابة وسلطة القانون، وتطبيقه واحترامه. في حين تشكو المجتمعات الغربية برغم احترام كلٍّ من القانون والرقابة - من غياب الوازع الذاتي. فنحن يجب أن نسعى لتحقيق الأمرين معاً الرقابة والقانون من جهة، والوازع الذاتي من جهة أخرى، بغية تحقيق المنهاج الأمثل لاستقامة شؤون الجماعة وانتظام حياتها. ففي الإدارة العامة، المال الموجود فيها هو مال عام أي مال الناس والمجتمع، وبالتالي فأي زيادة في الاستهلاك دون الحاجة إليه تؤثر سلباً على وضع المالية العامة.
اليوم، معظم الحكومات في العالم الثالث تشكو عموماً من العجز المالي، فإذا لم يكن ترشيد للاستهلاك، وضبط للإنفاق، ولم يكن هناك استفادة من الإعتمادات المرصودة في كل إدارة من الإدارات العامة لخدمة الهدف المبتغى، فسيكون هناك تفريط بالمال العام، وبالتالي، يحصل ضرر بالغ في المالية، وهو ما سينعكس على التوازن المالي وينعكس سلباً في النهاية على الموضوع الاقتصادي، ما يستدعي تدخلاً من الدولة وهو ما يعني فرض المزيد من الضرائب، ما يؤدي لاحقاً إلى حصول مشاكل في النمو الاقتصادي وتنفيذ المشاريع والاستثمارات، وتالياً، على فرص العمل وعلى حياة الناس بشكل عام. فجزء من مواجهة مشاكل الهدر في الإنفاق إنّما يتحقق في ترشيد الاستهلاك والإنفاق الإداريين، وفي توظيف ورصد الإعتمادات لتحقيق أهداف ومشاريع محددة، فلا يصح ولا يجوز الإنفاق على شؤون ومشاريع لا أمور مرجوة منها. فمثلاُ في لبنان، نحن إذا وفّرنا في بعض الموارد عشرة مليارات ليرة سنوياً، ربما مكننا ذلك من إنجاز عدد كبير من المشاريع التي نحن بأمس الحاجة إليها. فلا نستخفّن بالقليل الذي يتراكم عبر ترشيد الاستهلاك ويمكنه معالجة العديد من المشاكل.