الشيخ محمد يونس
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء﴾ (المائدة: 91). تربط هذه الآية المباركة العداوات والخصومات التي تقع بين الناس ربطاً مباشراً بإرادة الشيطان ووسوساته وأنه من يوقع البغضاء والشحناء بين أفراد المجتمع، لذا ينبغي الاحتراز من اتباع خطواته والوقوع في شباكه؛ لأن ذلك من المحرمات الكبيرة التي تعاقب عليها الشريعة الإسلامية، ومن الأخطار التي تؤثر تأثيراً بالغاً على سلامة المجتمع وقوّته.
* الخصومة تحبط الأعمال
دعت الشريعة إلى درء الخلافات والخصومات بطرقٍ شتى وتشريعات متعددة لا توصل أهل الطاعة والإيمان إلى القطيعة والهجران بين بعضهم بعضاً؛ معتبرةً أن ذلك له انعكاس كبير على ميزان أعمال المرء يوم القيامة، حتى أنه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله في وصيته لأبي ذر: "إياك وهجران أخيك، فإن الله لا يتقبل عملاً مع الهجران". كما واعتبرت الشريعة أن الخصومة لا يمكن أن ترقى لتحلّ أيّ نزاع، فمما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في بيان عجز الخصومة عن حلّ أي مشكلة أو نزاع قوله عليه السلام: "المخاصمة تبدي سفه الرجل ولا تزيد في حقه" (2).
وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "الخصومة تمحق الدين وتحبط العمل وتورث الشك" (3)، فإنَّ الخصومة سبب لإظهار مساوئ الخصم لبغض منه وليضع قدره بين الناس فينشر مثالبه وقبيح أفعاله. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إياكم والخصومة فإنها تُشغل القلب وتورث النفاق وتُكسب الضغائن". ومن هنا فإن منشأ الخصومة في النفس الإنسانية مرض روحي لأننا مأمورون من الله بنشر الخير وتعميم الفضل وإبراز محاسن الناس والتغاضي عن سيئاتهم ونسيان الإحسان إليهم والإساءة منهم، وبذلك يدرك الإنسان عالي الدرجات في الدنيا والآخرة.
* أسباب العداوات
ولعل أول ما يطالعنا في الأسباب قول الإمام الصادق عليه السلام: "لا يخاصم إلّا شاكّ في دينه أو من لا ورع له" (4). وبالتالي فإن السبب الأول والعلة المباشرة لإثارة العداوات والخصومات بين الناس هو ضعف الإيمان. وضعف الإيمان والتدين والالتزام من الطبيعي أن يستلزم عدم المعرفة الحقيقية بمنظومة الحقوق والواجبات التي ينبغي أن يمارسها الإنسان مع إخوانه في الله، فلا يؤدي ما عليه من حقوق ويُطالب بما ليس له من واجبات؛ مما يجعل من هذه العلاقة علاقة غير واضحة المعالم والتوصيف فتنشأ الحساسيات والمشاكل وتؤدي إلى النفور والتجافي. وسنتعرض في هذه المقالة لبعض الأمور التي تثير الخصومات والتي تندرج جميعها تحت عنوان ضعف الإيمان عند الإنسان.
1ـ سوء الظن: وهو من أكبر الذنوب التي تخالف الورع، ولذلك ورد عن علي عليه السلام: "أفضل الورع حسن الظن" (5)، وبالتالي فهو من أكبر الأمراض الروحية التي تطعن صميم أي علاقة وتوصلها إلى الحضيض؛ لأنها تخالف الفطرة الإلهية التي فطر الله الناس عليها من ضرورة الاحترام المتبادل والتعاطي بثقة ومسؤولية وقبول قول الآخر. أما التعاطي بغير ذلك فينطبق على الإنسان الذي يحمل الشّرّ في طيّات نفسه، فعن الإمام علي عليه السلام: "الشرير لا يظن بأحد خيراً لأنه لا يراه إلا بطبع نفسه" (6). وعنه عليه السلام: "من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليل صلحاً" (7). ومن هنا كان سوء الظن سبباَ أكيداً لنشر الخلافات والنزاعات بين الناس.
2ـ الأنانية: وهي أول ما احتج به الشيطان على الله حين قال: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين﴾ (ص: 76). ومعناها أن يرى الإنسان لنفسه فضلاً على الآخرين ويوجب لنفسه ما لا يوجب لغيره ويرى لنفسه حقوقاً على الآخرين لا يراها لهم ويطلب من الآخرين ما لا يؤديه لهم فيضع نفسه في مقام أرفع من الناس ويتعاطى باستعلاء لا مبرر له فينشأ النفور والجفاء مقدمةً لقطع أسباب التواصل وروابط الأخوة. وقد نهت النصوص عن ذلك بشدة محددةً قواعد التعامل مع الآخرين والتي يأتي في مقدمها قول: "أحبب أخاك المسلم، واحبب له ما تحب لنفسك" (8). واعتبرت أن الأنانية نوع من عبادة الأصنام كما ورد على لسان العرفاء: "أعظم الأصنام صنم نفسك".
3ـ الحسد: والذي يعني إرادة إزالة النعمة عن الآخرين وطلبها لنفسه. وبالتالي فإن الإنسان عندما يسعى لزوال هذه النعم عن أخيه فإنه يريد له سوءاً ويقف منه موقف المعادي فيقع في تناوله بالكلام المسيء والحطّ من شأنه وتضعيفه بين أهله وإخوانه مما يثير الضغائن والبغضاء والحساسية. والحال أن الله أراد لنا أن يهنّئ بعضنا بعضاً بالنعم وأن نتمنى لإخواننا زيادة الفضل ونغبطهم على ما أنعم الله عليهم وندعو لهم أن لا تخرجهم النعمة عن طاعة الله، بل تزيدهم طاعةً ورضىً ومحبةً للناس وقرباً منهم؛ لأن ذلك مما يقوي المودة وينفي العداوة. قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34).
4ـ التدخل في الأمور الشخصية: وهذا من أهم الأسباب الرائجة في مجتمعاتنا للخصومات والعداوات، ولا سيما داخل منظومة الأسرة أو دائرة الأقارب. فالأمور الشخصية ينبغي أن لا تكون مساحةً للنقاش والجدال، بل يجب أن ينأى المرء بها عن أي حديث حتى وإن كان مزاحاً بين بعضنا بعضاً، وهي من أشد الأمور حساسية وإيلاماً؛ لأنها تستبطن الحطّ من قدر الإنسان ومعرفته والطّعن بعقله وحسن تدبيره. ومن هنا فإنّ أي كلام له علاقة بشكل الإنسان وكيفية سلوكه في معاشه وهواياته ومواقفه الشخصية وحياته العائلية ومأكله وملبسه وعمله وعلاقاته الخاصة كل ذلك مما لا يجوز التدخل فيه أو الاعتراض عليه ولو بإشارة، لأنه يبعث على الشك والتوهين في العلاقات والنفور والتجافي بين أهل الطاعة والإيمان لأن الدائرة الشخصية لكل فرد تبقى مكاناً حصرياً وخاصة به.
وهذا النوع من التدخل إنما يتنافى مع الورع؛ لأنه يستبطن غفلة الإنسان عن سيئاته، بل واعتبارها حسنات والنظر إلى أعمال الآخر وأفعاله على أنها سيئات وإن لم تكن كذلك. وفي الختام، لا بد من التذكير بأن سبيل رفع العداوات والخصومات من مجتمعنا إنما يكمن في رفع الأسباب الموجبة لها، أي معالجة الأمراض الروحية في النفوس والتحلّي بروحيّة الإسلام والتمسك بثقافته الأصيلة التي تكفل للمجتمع سلامته وإيمانه.
(1) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 12، ص 264.
(2) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 748.
(3) وسائل الشيعة، م. س، ج 16، ص 200.
(4) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 12، ص 248.
(5) ميزان الحكمة، م. س، ج 2، ص 1785.
(6) م. ن، ج 2، ص 1785.
(7) م. ن، ج 2، 1787.
(8) الأمالي، الصدوق، ص 401.