الشيخ حسين زين الدين
في العام 2002م، وأثناء عودتنا من زيارة المناطق المحرّرة المتاخمة للجولان السوريّ
المحتلّ، جلس إلى جانبي رئيس أحد الوفود الشبابيّة المشاركة في المخيّم الشبابيّ
للأحزاب العربيّة، وكان من المتحمّسين للفكر اليساريّ العلمانيّ، وسألني -دون
مقدّمات-: لماذا انتصر حزب الله؟! أجبته مبتسماً: الجواب صعب، هل تمتلك صبراً كافياً
لأشرح لك؟!
قال: نعم، فالطريق إلى دمشق طويل، والزملاء أرهقهم السفر، وسينامون بعد قليل.
لقد ساعدني سؤال هذا الصديق على اكتشاف هويّتي، وساهم في التدبّر في أهمّ المميّزات
التي تفسّر الانتصار -في اعتقادنا- ميزة الولاية للفقيه العادل التقيّ الكفوء، الذي
تشكّل صفاته الشرعيّة عموداً فقريّاً لبناء السلطة في الفكر السياسيّ الشيعيّ. فأين
يكمن دور الولاية لقائدٍ كهذا في تحقيق النصر؟
* تسديد من الله.. نصر
في معرض إجابتي عن سؤاله، خلال الطريق، تعمّدت اجتذابه بإجابةٍ ابتدائيّةٍ مضمرة،
فقلت له: سرّ نصر حزب الله هو "التوحيد الأفعاليّ". بدا دَهِشاً من الإجابة،
فاسترسلت بشرحها له ببيان أنّ الفضل كلّه يعود إلى مَن بيده ملكوت السماوات والأرض
سبحـــانه، وإلّا فكيف يكـــون النصر إلهيّاً ونحن نغفل عن صانعه الحقيقيّ؟!
لم تكن الإحالةَ إلى السبب الغيبيّ دون بيان تجلّيــــاته ومظاهره المشهودة مقنعةً
لصاحب قناعــــــة علمانيّة، لـــم يتلمّس الثوابت الاعتقاديّة والإيمانيّة، وإن
كان لا يرفضها لو اتّضحت له ببراهين متدرّجة. لذا، عطفت الكلام نحو الخصائص
المميّزة لحزب الله من جهة بنيته الفكريّة ونموذجه القياديّ وضمانات الاستقامة في
نهجه، حتّى بلغنا مبحث ولاية الفقيه وصفاته وشروطه القياديّة. هنا كنّا قد وصلنا
إلى مقصدنا في وسط دمشق، لذا تابعنا الحديث عنها في اليوم التالي، خلال رحلتنا إلى
اللاذقية، وهي:
1- الفقاهة في الوليّ:
وهي امتلاكه لأدوات الاستنباط وفهم الدين من مصادره الأصيلة؛ فإنّ ذلك يشكّل ضمانةً
لسلوك هدي القرآن والسُنّة النبويّة ونصوص أهل بيت العصمة عليهم السلام. وهذه
المصادر المعصومة تشكّل كاشفاً عن السُّنن والقوانين الإلهيّة المؤدّية إلى النصر،
كما هي كاشفة عن الأحكام الشرعيّة في ميدان الفقه الأصغر. وهذه الميزة في الفكر
الشيعيّ حافظت على متانة المرجعيّة الدينيّة تاريخيّاً، وعلى تحرّرها من قيود
السلطان ورغباته، سواء في دائرة "المرجعيّة" بالمعنى الفقهيّ التي تصدّت ولائيّاً
بمقدار الأمور الحسبيّة قبل التمكين، أو في دائرة "الولاية العامّة" التي تصدّت
بشكلٍ أكثر اتّساعاً بعد التمكين بإقامة الحكومة الإسلاميّة المستقلّة.
2- الورع والتقوى في الوليّ:
إنّ الاستقامة السلوكيّة، وتهذيب النفس، وترك علائق الدنيا، والرقابة الذاتيّة التي
يصطلح عليها بالتقوى، تشكّل ميزةً ضامنةً في الوليّ، تُحرّره من اتّباع الهوى في
الأحكام، وتقيه شرّ الخوف والضعف في مواجهة الطواغيت، وتمكّنه من تقديم الإرادة
الإلهيّة على إرادته الشخصيّة؛ وبذلك، يتحقّق أهمّ شروط النصر، وهو اتّباع الوليّ
الإلهيّ الذي جعله الحجّة الأصليّ حجّةً على الناس في زمن غيبته. والسرُّ في هذه
الحجيّة هو كونه مؤتَمَناً على كشف إرادة صاحب الشريعة في الموارد العامّة التي
تحتاج إلى تشخيص الموقف والتكليف؛ وبذلك، تنال الأمّة المطيعة جزاء ولايتها تسديداً
وتأييداً ونصراً.
3- الكفاءة القياديّة في الوليّ:
هذا الشرط تقتضيه طبيعة التناسب بين الحكم والموضوع أو بين الصفة والوظيفة، فالمهمة
القياديّة عند الفقيه المتولّي لإدارة الأمور العامّة للناس تفترض امتلاكه أعلى
مستويات الوعي السياسيّ، والخبرة الإداريّة، والنضج القياديّ، ليتمكّن من تشخيص
العدوّ، ومعرفة أساليب مواجهته، واستثمار موارد القوّة، ورسم الاستراتيجيّات في
التنمية والتطوير وإدارة الصراعات، وتحديد الأولويّات، ورفع مستوى البصيرة
الجماهيريّة، وتعيين القيادات، وضبط الصلاحيّات ومراقبة الأداء و... وهذا كلّه؛ لأنّ
الشريعة لم تجعل تشخيصه تمام الموضوع لوجوب الطاعة إلّا بضمانة هذه الكفاية
المتفوّقة فيه. ومن البديهيّ مع توفّر صفة كهذه، أن يقود هذا الوليّ أمّته نحو
تحقيق الإنجازات والانتصارات، ولكن بشرط الطاعة والانقياد والتسليم بعد تحقُّق
موجبات ذلك على المستوى الشرعيّ.
4- صناعة النصر بالبصيرة:
لم يعد البحث في تأثير البصيرة القياديّة للوليّ بالنصر أمراً نظريّاً، فالتجارب
التي خاضتها المقاومة في مواجهة التحدّيات على أنواعها تحت مظلّة التوجيه الولائيّ،
تثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ حقيقةً مفادُها أنّ الركن الوثيق الذي ترجع إليه
التوفيقات الإلهيّة هو طاعة الوليّ.
ومن الشواهد البارزة على هذه الحقيقة، ما دأب على التصريح به "سيّد الانتصارات"
سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في أكثر من مناسبة بأنّ الصاحب الأصليّ
للنصر هو ذلك الوليّ العادل التقيّ، البصير الـــــذي حدّد لنا المســـار، وأرشدنا
إلى أسبــــاب النصر في المحطّــــات كلّها. ولأجـــــل ترسيخ ذلك، عمد سماحته في
مؤتمر فلسطين، بعد تحرير عام 2000م في طهران، وأمام أعين العالم إلى الانحناء
لتقبيل يد الإمام الخامنئيّ دام ظله في تلك الواقعة المشهودة، وحين سُئل عن سبب ذلك،
قال: "بعد التحرير تصدّر اسمي الإعلام العالميّ، وجرى تداوله كاسم لشخصيّة العام،
وقد بالغ بعضهم في وصفي وتشبيهي ببعض الرموز التاريخيّة، كلٌّ حسب رمزه، فقرّرت أن
أبعث برسالةٍ إلى العالم أنّي لست سوى جنديّ من جنود هذا القائد".
* الولاية والوحدة والنصر
يشكّل وجود قيادة إلهيّة خارج دائرة الصراعات الوطنيّة والطائفيّة والحزبيّة، تمتلك
رؤيةً شاملةً للمشهد العالميّ والإسلاميّ، ضمانةً لمنع الفتن والفرق والخلاف؛ وذلك
لأنّه خارج التأثير المباشر للأحداث، مع إحاطته بها؛ ولأنّ شرط الولاية مراعاة
مصلحة المولّى عليهم، ليس في دائرة جغرافيا محدّدة، بل في كلّ مكان يوجد فيه من
يحتاج إلى الرعاية؛ ولأنّه فقيهٌ يمتلك فهماً عميقاً للوحدة الإسلاميّة
والاجتماعيّة التي أمرت بها الشريعة المقدّسة، وذلك كلّه يساهم في الاجتماع والتآلف
في وجه الأعداء والمتآمرين، وفي ذلك اجتناب التنازع المودّي إلى الفشل، وهذا هو هدي
القرآن الكريم الناطق بأسباب النصر ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ
وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ
إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 46).
* الولاية يدُ الحماية
وإذا ترصّدنا المحطّات التي مرّت على المقاومة في ظروف الفتن، نجد أنّ يد الولاية
المباركة كانت الحارس والحامي والحاضن للمقاومة، وأنّ من بركات هذه الحماية، توفير
الاستقلال للقرارَين السياسيّ والجهاديّ، بما يتناسب مع مصالح الشعب اللبنانيّ
وسيادته.
ختاماً، لم يعد الحديث عن الولاية في زمن الغيبة مبحثاً نظريّاً، فقد استوفى
الفقهاء البحث فيه من هذه الجهة، وصار من الضروريّ النظر إلى ولاية الفقيه كنعمةٍ
إلهيّة، كما يراها الإمام الخمينيّ قدس سره، والالتفات إلى البركات الكبرى التي
شهدها عالمنا الإسلاميّ بفضلها وتحت ظلالها، فملاحظة سريعة لواقع المسلمين
والمستضعفين وتديُّنهم وحضورهم وتأثيرهم في الأحداث منذ 1979م إلى اليوم، تكشف لنا
بوضوح السلّم المعراجيّ والتصاعديّ. وما النصر الذي تحقّقه المقاومات والدول
الحليفة إلّا ثمرة من ثمرات هذه الولاية المباركة.
وفرط هذا النصر، هو ما دفع صديقي إلى طرح سؤاله، الذي وصل نصره الثاني إلى أبعد من
رحلتنا إلى اللاذقيّة.