آية الله جوادي الآملي
تحدّث آية الله جوادي الآملي في الحلقة السابقة عن الحكومات الجاهلية واتّباع الهوى ثم عرج لبيان خصائص الحاكم الطاغوتي الذي يقف في مقابل الأنبياء وخطهم الذي يدعو إلى تحكيم العقل في ولاية الله سبحانه. في هذه الحلقة يكمل ما قد بدأ به سابقاً.
قلنا سابقاً أنَّ الطواغيت يدعون الناس إلى عبادتهم ويمنعونهم عن عبادة الله عز وجل. وقد تحدث القرآن حول سؤال فرعون لموسى عن ربه وكيف أنه نسب الجنون إلى النبي عليه السلام وأنهى حواره معه بأنه لا يعلم إلهاً غيره.
﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله﴾ (الروم - 10).
﴿قال فرعون وما رب العالمين*قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين*قال لمن حوله ألا تستمعون* قال ربّكم ورب آبائكم الأولين* قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون*قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون* قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنَّك من المسجونين﴾ . (الشعراء 23-29).
وكما أشرنا سابقاً أيضاً فإن هذه الألوهية التي ادّعاها فرعون لنفسه لم تكن أبداً بمعنى الخالقية والرازقية، بل بمعنى أنّه كان يعتبر أن رأيه وحكمه هو الذي يؤمّن سعادة الجميع.
إن الطواغيت يستخفّون الناس ويجعلونهم غارقين في الغفلة حتى تتم لهم الطاعة والانقياد.
في سورة القصص يأتي تعبير القرآن عن ألوهية فرعون بهذا الشكل:
﴿قال فرعون يا أيّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري﴾ (القصص - 28).
وفي سورة المؤمن بهذا النص: ﴿قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾.
* استخفاف الناس واستغلالهم
رغم بُعد الحكام الطواغيت عن المعارف الإلهية، إلاَّ أنّهم يتصوّرون أنفسهم المدربين والمخططين والقادة للناس نحو الرقي والرشد وهم يسعون لإبقاء الآخرين غارقين في هذه الغفلة حتى تتم لهم الطاعة والانقياد. وعن هذا الأمر يأتي الحديث في سورة الزخرف بقوله تعالى:
﴿ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون*أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين*فلولا ألقي عليه أسورةٌ من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين*فاستخف قومه فأطاعوه إنّهم كانوا قوماً فاسقين﴾. (الزخرف 51-54).
وكما جاء في بعض الآيات القرآنية فإن الاستخفاف أمرٌ حذّر الله تعالى رسوله منه:
﴿فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون﴾ (الروم - 60).
إلاَّ أنَّ فرعون لم يتوان عن بذل أي شيء وقول أي كذب لأجل خداع الناس وغوايتهم: ﴿إني أخاف أن يبدِّل دينكم﴾ (غافر - 26).
إن لقاء الله هو ثمرة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل إنه أحياناً نسب الإفساد والتخريب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿أو أن يُظهِرَ في الأرض الفساد﴾.
حتى بلغ به الأمر إلى نسبة السحر لموسى وأخيه هارون عليهما السلام:
﴿إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى﴾ (طه - 63).
وفي مقابل هذه الاتّهامات يخاطب موسى عليه السلام فرعون: دع لي هداية وقيادة الناس لأنني أنا الأمين عليهم.
تلك الأمانة التي كان يتحدث عنها موسى عليه السلام لم تكن الأمانة على المعادن والمصادر الطبيعية أو حتى في إبلاغ الأحكام للناس، لأن إبلاغ الأحكام يمكن أن يتحقق من خلال البحث والدرس وهذا لا يحتاج إلى نزاع ومواجهة. بل تلك الأمانة كانت الحكومة على قلوب عباد الله. ولهذا فإن موسى عليه السلام وأثناء طلبه استرداد عباد الله يدل على نفسه بأنه أمين. لقد كان موسى عليه السلام يريد من خلال إدارة الشؤون الاجتماعية للناس أن يحفظ أفكارهم ونفوسهم وأرواحهم وقلوبهم، وكان أميناً في سعيه لإيصالهم إلى لقاء الله.
لو أدرك الناس لقاء الله الذي هو ثمرة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو لم يبقوا غافلين عن السير في ملكوت السموات والأرض الذي هو ميسور بقيادة وهداية الأنبياء لما خضعوا لولاية وقيادة الطواغيت المضللين. فما أدَّى إلى إطاعة غير الله، استخفافهم نتيجة الأفكار والوعود التي كان يعطيهم إيَّاها الفراعنة.
* غصب أموال المساكين والمحرومين
في سورة الكهف وبعد بيان التقاء موسى بالخضر عليه السلام، يجب الخضر عليه السلام عن سؤال موسى عليه السلام، في شأن ما جرى على تلك السفينة التي خرقها:
﴿أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً﴾ (الكهف - 79).
إن هذه الآية لا تظهر خصائص سلطنة الطواغيت من غصب وسائل رزق المساكين والمحرومين فقط بل تبيّن نهج وسيرة أولياء الله في حفظ وحراسة أموال المحرومين.
وأيضاً ما جاء في الآيات التالية من نماذج أخرى لسيرة الأنبياء:
﴿وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربك وما فعلته عن أمري﴾.
هذه الآيات تذكر نماذج عديدة لنهج الطواغيت في تعاملهم مع المحرومين مقابل نهج الأولياء الإلهيين.