آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

أبو علي يستعيد وَلَدَيْهِ مسجداً في وادي الحجير

منهال الأمين



حاول الاحتلال ترويعه منذ عشرات السنين، ولكنه رفض أن يتخلى عن أرضه، التي هُجِّر منها قسراً بعد احتلال العام 1978. أبو علي، أحمد عباس، لم يبتعد كثيراً عن القنطرة، ولا عن وادي زرعه وخيره، حيث جرت دموع الأجداد وعرقهم أنهاراً تروي قحطه وجدبه بالعمل والجد والكد والتعب، عشراتٍ من السنين ودهوراً من العمر الثقيل، حتى غدا الوادي خصباً جنياً. لا يقيس أبو علي الأرض بالأمتار، إنما هي تزن عنده ما شربت من دماء مئات المقاومين الذين عبروا من هنا، منذ الانتداب الفرنسي وصولاً إلى الاحتلال الإسرائيلي. إلى الغندورية المجاورة، ركب أبو علي الطريق الصعب صعوداً، مصطحباً رفيقة عمره، وستة عشر فلذة كبد، منقسمين بالتمام بين بنين وبنات. في القرية المستريحة على كتف الوادي المطل على نهر الليطاني، أرخى مرساته ولكنه لم يقو على تركها تستريح طويلاً أو تبلغ القعر "كنت دائم التفكير بأرضي وبيتي" يقول أبو علي ويضيف: "كيف ترتاح الأرض وهي تحت الاحتلال، وكيف يهنأ بال صاحبها وهو لا يستطيع حمايتها؟".

في العام 2000 انبلج الفجر الذي انتظره أبو علي طويلاً، وشاء الله تعالى أن تكون الغندورية قرية لجوئه بوابة التحرير الأولى، حيث منها عبر أهل الجنوب لأول مرة، إلى قريته الأم، القنطرة، فحطّموا الشريط الشائك، وانهارت في لحظة سنوات طوال من الظلم والقهر والعدوان. لحظات عاشها أبو علي بكل جوارحه، رأى وادي الحجير جنّة خضراء وروضة غنّاء تستصرخ يديه، فلبّى ولم يقصّر. وفرحة التّحرير كانت عارمة في صدور، وقاتلة في صدور قوم آخرين، فارتد الصهاينة غزاة في تموز 2006، وكان أبو علي لمَّا يتمم عودته إلى قريته بعد، فأمضى في الغندورية بين المجاهدين 13 يوماً، إلى أن اقترح عليه أبناؤه المغادرة، لأن الأمور بدأت تسوء أكثر فأكثر، فانتقل من الغندورية إلى قلاويه المجاورة، ثم ما لبث أن غادر إلى دردغيا، ومن هناك إلى مدينة صيدا، قاطعاً الطريق تارة سيراً على القدمين، وأخرى بسيارات ندر مرورها على الطريق بسبب استهداف الطيران المعادي لكل ما يتحرك عليها. ظل أبو علي يطمئن إلى حال الصامدين والمقاومين في الغندورية عبر الهاتف الخليوي، حتى مساء الجمعة الحادي عشر من آب. فجر اليوم التالي، السبت 12 آب، عند الساعة الرابعة، حاول العدو أن يرد شيئاً من اعتباره، قبل التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في مداولات مجلس الأمن يومها، ولذا عمد إلى إنزال ضخم في الغندورية، شارك فيه آلاف الجنود الصهاينة، لكي يؤمن وصول قواته إلى ضفاف نهر الليطاني، بعد أن عجز عن تنفيذ ذلك برياً، وتكبد خسائر فادحة في صفوف دباباته، في ما اصطلح عليه بـ"مجزرة الدبابات" في وادي الحجير. ولكن كانت الغندورية بشبابها من القرية والجوار بالمرصاد، وخاض المقاومون مواجهات مشهودة امتدت لستين ساعة، أسفرت عن تقهقر العدو، مخلفاً وراءه أشلاء جنوده القتلى وعتادهم وبرك دمائهم تلفظها الأرض فلا تستسيغها، لتحتضن ثلة من الشهداء المدافعين عنها، الذين قاتلوا حتى الرمق الأخير، وقضوا محتسبين أمرهم عند الله عزّ وجلّ، وبينهم ولدا أبي علي، فادي وشادي. وتكشّف غبار المعركة عما تكشّف عنه من بطولات سطرها المجاهدون البواسل، محبطين مخطط العدو في اللحظات الأخيرة للحرب. وانجلى المشهد ليضع أبا علي أمام امتحان الشهادة الذي ولجه بكل قوة، ونال فيه درجة عالية من التصبر والتسليم لله عزّ وجلّ.

 ذكرى فادي وشادي في حياة أبي علي وعائلته ليست ذكرى للفقد والحزن، وإن كان وقع خسارة ولدين شقيقين في يوم واحد شديداً على قلب الأهل والإخوان، إلا أن من يراقب أبا علي وهو يتحدث بفخر عن ولديه اللذين رفعا رأسه عالياً، لن يلمح في عينيه التماعة حزن، أو دمعة تفضح أساه العميق، لأنه أحب الحياة، ورآها دوماً كالأرض الخصبة، عليك أن تعطيها من قلبك، حتى تمنحك كل أسرارها. وهكذا قرر أبو علي أن يخلّد ذكراهما، من خلال بناء مسجد، وتحديداً في المنطقة التي صارت تسمى وادي الشهداء، أي وادي الحجير. وهذا يندرج في صميم مشروعه لإحياء الأرض التي أريد لها أن تموت من العطش، رغم أنها تطفو على بحيرة شاسعة من المياه الجوفية، فكيف إذا ضمت إلى رصيدها مئات من الأجساد الشامخة التي انغرست في أحشائها تحرسها لأبد الآبدين؟. ولتنفيذ مشروعه، عمد أبو علي إلى بيع عقار يملكه في الغندورية، وضم ثمنه إلى مبلغ كان ادخره من قبل، إضافة إلى تقديمه قطعة الأرض التي سيبنى عليها المسجد.

ولكن المجموع لم يكن ليكفي إنجاز المشروع، فاندفع عدد من المساهمين للتبرع بباقي المبلغ. وهكذا أُنجز حلم أبي علي في نهاية العام 2009، وأطلق على المسجد اسم إمامين مقاومين، السيد عبد الحسين شرف والسيد موسى الصدر، لما يمثله هذان الرجلان من قيمة فكرية وجهادية، وأهدى أجر بنائه إلى روحي ولديه الحاج فادي والحاج شادي. ويلفت أبو علي إلى أن المسجد ليس مجرد محطة تنتظر استضافة عابري السبيل، إنما هو يستقطب المصلين في أوقات الصلاة، وخصوصاً يوم الجمعة، حتى يضيق بالمصلين. كذلك أنشأ أبو علي بالقرب منه سبيل مياه عن روح الشهيدين وشهداء الوعد الصادق كافة. أبو علي طوّر مشاريعه الزراعية بقدرات ذاتية، زراعة التبغ، بستان الأشجار المثمرة على أنواعها، حمضيات ولوزيات وغيرها، إضافة إلى موسم الرمان الوافر، دبساً وثماراً، وأيضاً تربية النحل وما تنتجه من عسل بلدي ذي جودة فاخرة عرف بها عسل المنطقة. ويعتب أبو علي على الدولة لإهمالها المنطقة، على الرغم مما تتمتع به من ميزات طبيعية وجمالية رائعة، مطالباً بضرورة إنجاز مشروع الليطاني وإنشاء السدود للاستفادة من مياه الينابيع المنتشرة بكثرة في أنحاء وادي الحجير. ثم يمسك أبو علي عن كلام العتب، ليعود بك إلى حكاية لا تحب أن تنتهي فصولها، علك لا تغادر زمنه ومكانه الجميلين، فتعيش بعضاً من أحلامه التي يؤمن بتحقيقها، إيمان الواثق الجاد، أو تلفحك نسمة من هواء يحتفل في الوادي برجال مروا ولكنهم لم يبرحوا المكان أبداً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع