مع الإمام الخامنئي | الحوزويّون روّاد قضايا الأمّة(2)* ظهور الإمام المهديّ والملحمة الأخيرة فقه الولي | من أحكام الغشّ في المعاملات أخلاقنا | لا تظنّوا بالآخرين سوءاً* الشهيد على طريق القدس مهدي زهير مرعي (عبّاس) الشعب الإيرانيّ: كلّنا مع الوليّ تسابيح جراح | نورٌ من بعد الألم عيتا الشّعب: تلالٌ لم تنحنِ الأكزيما: الأسباب والعلاج وصاياه الأخيرة في عاشوراء (2): انصـروا الحــقّ*

الشهيد على طريق القدس مهدي زهير مرعي (عبّاس)

حوراء مرعي

اسم الأمّ: خديجة بهجة.
الوضع الاجتماعيّ: متزوّج وله 3 أبناء.
تاريخ الولادة ومحلّها: ميس الجبل 21-12-1988م.
تاريخ الشهادة ومحلّها: عيناثا02-10-2024م.


خلف ساتر ترابيّ طويل، احتمى وصديقه في مواجهة حامية مع دواعش سوريا على تلال القصير. فجأةً، باغتهما صاروخ أصاب الساتر بدقّة، فاندملا تحته. فتح عينيه وصوت صديقه يناديه: «عبّاس، هل أنت حيّ؟».
رغم الضَّباب الكثيف الذي لفّ المكان، سمع صوته، «لا يزال حيّاً إذاً». حفر بيديه، وخرج من تحت التّراب متمتماً بحسرة: «لقد فاتتني الشهادة من جديد، لعلّني لست أهلاً لها».

• خُمس الشهادة
هو بكرُ والديه، وأكبر إخوته الشباب الخمسة، وأخ لأخت وحيدة. لطالما مازحهم أصدقاؤهم بالقول: «لقد استحقَّ الخُمس من دمائكم، متى ستخمّسون يا آل مرعي؟». كان الجميع يعلم أنّ خُمس الشّهادة من عائلتنا هو مهدي، والمسألة مسألة وقت لا أكثر. كان جار مسجد الإمام الحسن عليه السلام في الرادوف، فأحسن حقّ الجيرة، وواظب على أداء صلواته يوميّاً فيه. ويبدو أنّ المسجد أيضاً يحفظ حقّ الجيرة، حتّى ولو طال الزّمان، إذ أخبرني ابني أنّ صورة خاله معلّقة على أحد جدرانه، بالرغم من أنّنا انتقلنا من الحيّ منذ عشرين عاماً، وقد أعرب عن سعادته بذلك.
إلى جانب تفوّقه الدّراسيّ، التحق مهدي بكشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وترعرع فيها برعماً فكشفيّاً فقائداً. كانت الكشّافة عالمه المحبّب، إذ كانت طريقه إلى خدمة النّاس، وتعليم النشء مكارم الأخلاق بسلوكه قبل كلامه. كان فيها متفانياً حدّ الذّوبان، حتّى صار جميع أبناء الحيّ ينادونه بـ«شهيد».
مُذّاك، اعتدنا أنّ «شهيداً» يعيش بيننا، فاستأنسنا الكلمة، وظنّنا أنّه سيبقى بيننا طويلاً، وأنّ الشّهداء لا يرحلون.

• هدوء وضجيج
هادئ المحيّا، مبتسم الوجه، قليلُ الكلام، والبارّ بوالديْه حدّ أن تستيقظ أمّه من عمليّة جراحيّة لتجده عند قدميها يقبّلهما ويدعو لها بالشفاء، وحدّ أن يخفض الجناح حبّاً ورحمة لوالده. زوج محبّ وأبٌ حنون، لم يكن لينسى تخصيص زوجته بدفتر ملوّن، مثلاً، حين يشتري القرطاسيّة لأولاده. بالرّغم من غيابه الطويل عن المنزل، كان شديد الحضور عند عودته، دافئ الوصال، متعاوناً في سهر الليالي على رعاية الأطفال بالرّغم من تعبه.
تروي زوجته أنّهما كانا يتقاسمان ساعات الليل لرعاية الأطفال في أيّام عودته من ساح الوغى، فكانت توقظه عندما يحين دوره، فيما يرقّ قلبُه لحالها وتعبها عندما يحين دورها فيتركها نائمة حتّى الصباح. تستيقظ على أنينه ومناجاته عند الفجر، فتجده غارقاً في عالم التّسبيح. لطالما أوصاها بتسبيحة الزهراء عليها السلام بعد كلّ صلاة، كانت تسبيحته المقدّسة التي يؤدّيها بخشوع، كما الصلاة، ولم يكن حتّى ليومئ برأسه عند تأديتها لو كلّمه أحد.

• «تزوّدوا»
كانت مواقيت الصّلاة منظّم يومه، لا يزاحمه على أدائها في أوّل وقتها نومٌ أو عملٌ أو نزهة. أمّا زيارة عاشوراء، فكانت لازمة لكلّ صلاة، سيذكر أبناؤه طويلاً كم انتظروه قبالة سجّادة صلاته ليُنهي التسبيح والزيارة قبل الخروج. وسيشهد مسجد القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف على ليالي القدر التي لم تفُته حتّى عامه الأخير، لقد احتضن دعواته ودموعه لسنوات، ولعلّه كان موطن استجابة الدّعاء بالشهادة. كان يضع جوّاله في حال الصّمت تفرّغاً للعبادة في تلك الليالي، ولمّا هاتفته زوجته بإصرار في إحدى ليالي القدر، أجاب بكلمة واحدة: “تزوّدوا”؛ كانت ليالي استزادته لمسير طويل.

• أثمن ما في البيت
في ذلك الاثنين الأسود، يوم اشتدّ القصف على قرى الجنوب، وغادر أهل الضاحية أحياءها، رفض الخروج من منزله بالرّغم من أنّه أرسل زوجته وأطفاله إلى مكان آمن. رجوته تلك الليلة أن يغادر منزله؛ لأنّه على خريطة التدمير الهمجيّ الصهيونيّ منذ سنوات. لم يكن يريد المغادرة كي لا يخسر خطّ التواصل الداخليّ، وتالياً فرصة الإصرار على الالتحاق بالجبهة، فغادره لاحقاً على مضضٍ، لكنّ عزمه لم يغادر إصراره على التوجّه جنوباً؛ فكان له ذلك، والتحق بمعركة أولي البأس منذ بدايتها.
يوم زار منزله للمرّة الأخيرة لتحضير حقيبته، أخذ معه منديلاً للتنشيف وقميصاً فقط، ولم يُخرج معه أيّ غرض ثمين، سوى درعٍ استحقّه بعد مشاركته في عرض القصير الجهاديّ. لقد أراد لذلك الدّرع أن يكون شاهداً على مسيرته الجهاديّة، لعلّه وجده أثمن ما في البيت.

• وصيّته لطفلته
قبيل التحاقة بالجبهة، ودّع أطفاله عبر الهاتف، وطلب من زوجته أن تُرسل له صورة مدلّلته مريم بالحجاب. مريم التي كانت موعودة بحفل تكليف يُكلّلها والدها فيه بتاج الورد، إلّا أنّ حادثة تفجير “البايجرز” كانت محطّة قاسية، لم يكن قلبه ليقوى على الاحتفال ومئات الجرحى مضرّجين بدمائهم.
فترك لحجابها وصيّةً صوتيّة مع أمّها: «بدّك تركزيلا وتعلميها تنتبه تلبس زنود ما يبيّنوا إيديها، حتّى لو ما تكلّفت. لازم هودي تتعوّد عليهن، إيديها ما يبينوا، إجريها ما يبينوا، شعراتا أكيد ما يبينوا».

• خادم الإمام
نذر نفسه خادماً حسينياً، فاستأذن والده ليفتح الدّار مضيفاً في يوم العاشر من محرّم، ودأب على تلك العادة سنين طويلة، منذ سنيّ شبابه الأولى. فيما بقيت زيارة كربلاء حلماً يدغدغ قلب عاشق مشتاق. وفي العام 2018م، صار الحلم حقيقة، فزار الإمام الحسين عليه السلام من حدود سوريا، بثيابه العسكريّة، من دون تخطيط لتلك الزيارة. وفي العام نفسه، كتب الله له الزيارة مجدّداً، ولكن قبل الأربعين بيوم واحد فقط.
بشوق المحبّين ولهفة العارفين، قطع المسافة مشياً بيوم وليلة، من مطار النجف الأشرف معرّجاً على مقام أمير المؤمنين عليه السلام، ليُكمل المسير نحو مهوى القلوب وموطن العشّاق، ويصل إلى المقام في سحر الأربعين.
أمام محلّه الصغير، افتتح مضيفاً متواضعاً لإحياء مناسبات أهل البيت عليهم السلام. كان يطلب منّا أن نحضّر أنواع الحلوى في بيوتنا، ليُشركنا في أجر التوزيع، ولينبّهنا إلى أهميّة إحياء المناسبات، فيما يقف على مفترق الطريق ويحمل أطفاله وأطفالنا، ليوزّعوا الحلوى على المارّة.

• الأيّام الأخيرة
في الثاني من تشرين الأوّل من العام 2024م، في أحد أحياء عيناثا، إلى جانب مسجد الخضر عليه السلام، ارتقى مهدي ملتحقاً بسماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) ومن سبقهما من الشهداء في معركة كربلائيّة، قاتل فيها ورفاقه قتال الاستشهاديّين، وقد التحف جسده سماء عيناثا لثمانية أيّام، غفا فيها غفوته الأخيرة في العراء، مع ثلّة من رفاق الجهاد. يخبرنا الشابّ الذي سحب الجثمان: «بعد ثمانية أيّام من شهادته، كان جسده لا يزال غضّاً طريّاً”، يُقارن صورته بالوجه الذي رآه، فيضيف: “كان نورانيّاً، إلى حدّ لا يمكن وصفه، أغمضتُ عينيه، تحسّست كثيراً من أنحاء جسده، لو لم أكن متيقّناً من شهادته لقلتُ: ما بال هذا النائم في العراء ثمانية أيّام!».
بالرّغم من ذلك، لم نحظَ بفرصة الوداع الأخير، ولم نعلم بشهادته إلّا بعد أكثر من عشرين يوماً، كان حينها قد أصبح وديعةً في ثرى صور. وقد دُفن ببزّته العسكريّة التي سيلقى الله عزّ وجلّ فيها لتكون شاهدةً على عمر أفناه في سبيله.

• عاش كالشُّهداء
«لم يكن مطلوباً ضمن عمله أن يلتحق بالجبهة، لكنّه أصرّ بشدّة، مرّات عدّة»؛ تلك كانت جملة من تعزية مسؤوله للوالد.
وقد همست إحدى جاراتنا: «رحل الجار الخدوم الطيّب، لم يكن ليقبل أن أحمل أغراضي أبداً، كان يحملها عنّي ويسبقني إلى باب الدّار». فيما وقفت أخرى في صفوف المودّعين، لتلقي نظرة الوداع الأخيرة على الشابّ الذي يسري بعض دمه في شرايينها، فهي لم ترَ وجهه، لكنّه لطالما كان أوّل المسارعين للتبرّع بالدم، كلّما احتاجت إلى نقل دمٍ في المستشفى. وفي زاوية بعيدة، يقف جريح «بيجر» ليعزّي والدي قائلاً: «منذ إصابتي بالبيجر، كان يزورني كلّ يوم متفقّداً حالي، ومصرّاً على تأمين حاجيات المنزل حتّى لا تضطرّ زوجتي إلى الخروج».

• أحياء
قُبيل رحيله، اتّخد مهدي لهاتفه خلفيّة مكتوبٌ عليها: «نجا من لم يعد». وقد انتظرته طويلاً، ودعوتُ له طوال أيّام الحرب ولياليها، لكنّه لم يعد. أسندُ اليوم بيتي بصوره المعلّقة على الجدران، وأسأله: «مهدي، هل أنت حيّ؟».
فيأتيني الجواب بعين القلب: ﴿أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 154).
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع