سيد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)
عندما ارتحل الإمام الحسين عليه السلام من قصر بني مقاتل: فبينما كان عليه السلام يسير، أخذته خفقة نوم خفيفة، فانتبه قائلاً: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين»، وكرّر هذه العبارة مرّتين أو ثلاثاً. عندها، جاءه ابنه عليّ الأكبر وهو على فرسه وقال مثل ما قال أبوه: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين»، ثمّ قال: «يا أبتِ، جُعلت فداك، ممّا حمدت الله واسترجعت؟». فأجابه الإمام الحسين عليه السلام: «يا بنيّ، إنّي خفقتُ برأسي خفقة، فإذا فارسٌ على فرس يقول: (القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم)، ففهمت أنّ المنيّة قد نزلت بنا، وأنّ الموت يسرع نحونا». فسأله عليّ الأكبر: «ألسنا على الحقّ؟»، فردّ عليه عليه السلام: «بلى، والذي إليه مرجع العباد». فقال: «إذاً، لا نبالي أن نموت محقّين». فأثنى عليه الإمام عليه السلام بكلماتٍ عظيمة: «جزاك الله من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده»(1).
• اعرفوا الحقّ
إنّ الله سبحانه وتعالى هو الحقّ، وكلّ ما جاء به أنبياؤه ورسله عليهم السلام هو الحقّ أيضاً. وهو داعي الخلق إلى ذلك، وهاديهم إليه.
يسأل الإنسان: ماذا يريد الله منّا في هذه الدنيا؟ يقول الله لعباده المؤمنين: أوّلاً، اعرفوا الحقّ. وأوّل خطوة في معرفته هي البحث عنه والسعي إليه، في كلّ صغيرة وكبيرة. ففي كلّ أمرٍ من أمور الحياة يوجد حقّ وباطل؛ فالعدل والإنصاف حقّ، والظلم والتفضيل بين المتساويين باطل. والبحث عنه يعني هنا: أن نتعلّم، ونسأل، ونتأمّل، ونفكّر. وثمّة الكثير من أوجهه، واضح بيّن، كعين الشمس، وقد أعطانا الله العقل والفطرة السليمة لنتمكّن من إدراكه.
فكلّ ما يمكن أن يُعيننا على معرفة الحقّ في هذه الحياة، قد وفّره الله لنا: في أنفسنا، والطبيعة، وآيات السماء والأرض، وبعثة رسله وأنبيائه عليهم السلام. وإذا كان وجود إلهين يؤدّي إلى فساد السماوات والأرض كما قال الله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبياء: 22)، فكيف يكون هذا الكون الشاسع المنظّم لولا إله واحد قويّ حكيم؟
ثمّة أمور تحتاج إلى سؤال، وبحث، ورجوع إلى العلماء والأنبياء، حتّى يبين الحقّ فيها، لأنّ تركها للعقل وحده أو للفطرة فقط قد يؤدّي إلى الضلال. فمن لم يسأل، ولم يبحث، ولم يُتعب نفسه في طلب الحقّ، سواء في الدين أو السياسة أو الأخلاق أو الموقف، فهو جاهل مقصّر، سيُسأل ويُحاسب يوم القيامة، بخلاف الجاهل غير المقصّر الذي لم تتوفّر له الوسائل ولا الفرص، فهو معذور.
• انصروا الحقّ
المطلوب، إذاً، أن نبحث عن الحقّ، وبعد البحث عنه نعرفه؛ لأنّ العلم والمذاكرة والتدقيق هي الوسائل التي توصلنا إلى معرفته. ومن بعد ذلك، يأتي القبول القلبيّ له، والمرحلة الصعبة حقّاً هي الاعتراف به باللسان، فكثير من الناس يعرفونه في قلوبهم لكنّهم يتردّدون في إعلانه أو يحجمون عنه.
ثمّ بعد ذلك، تأتي مرحلة أصعب: العمل بالحقّ والالتزام به، سواء كان لصالحك أو عليك، أو في مالٍ، أو شهادةٍ، أو موقفٍ، أو غيرها. والدرجة الأعلى في ذلك هي نصرة الحقّ، حتّى متى طُلب منك التضحية بفلذة كبدك، فعليك التضحية به، كما فعل الإمام الحسين عليه السلام، أو أن تصبر على الجرح والثكل والفقد، كما فعلت عائلته وأهل بيته. فنصرة الحقّ ليست كلمات تُقال، بل دمٌ يُراق، وقلوبٌ تُبذل، وحياةٌ تُستنزف في سبيله.
• كربلاء رمز الصراع بين الحقّ والباطل
«لبّيك يا حسين» لا تعني فقط البكاء أو التعزية، بل هي دعوةٌ حقيقيّة إلى نصرة الحقّ اليوم. كربلاء رمز الصراع بين الحقّ والباطل، بين الجبهة التي تحمل العدالة الإلهيّة وتلك التي تمثّل الطغيان والظلم.
وما قصّة الإمام الحسين عليه السلام إلّا تذكير بأنّ معركة الحقّ ليست فقط بالأمس في كربلاء، بل هي مستمرّة اليوم، وفي كلّ زمان. وقد كان على الناس آنذاك أن يتّخذوا موقفاً، وليس فقط أن يعرفوا الحقّ أو يؤمنوا به في قلوبهم أو ينطقوا به بألسنتهم، بل أن يقفوا معه بفعل حقيقيّ، وأن ينصروه بأموالهم وأرواحهم ودمائهم.
وهذا ما نحتاجه اليوم: أن نعي أنّ ثمّة حقّاً واضحاً جليّاً أمامنا، لا يحتاج إلى نقاشات طويلة ولا استدلال معقّد، كالشمس في رابعة النهار. وهو قضيّة فلسطين والأرض الفلسطينيّة المحتلّة، من غزّة إلى الضفّة، ومن لبنان إلى سوريا، حيث الاحتلال الصهيونيّ الذي يغتصب الأرض ويقتل الأهل ويدمّر البيوت.
إنّ هذا الحقّ واضحٌ عند الأمم والقوانين والضمائر، سواء من خلال المعايير الدينيّة أو الأخلاقيّة أو القانونيّة أو الإنسانيّة. ومن هنا، فإنّ قول «لبّيك يا حسين» اليوم يتطلّب منّا أن نتّخذ موقفاً، ونكون إلى جانب الحقّ، بكلماتنا وبأفعالنا، وبحضورنا ومسؤوليّتنا.
• تجلّيات الحقّ: نصرة فلسطين
إخواني وأخواتي، من يتجاهل ما يجري في غزّة، وما يتعرّض له الشعب الفلسطينيّ من مجازر وأسر واعتقال، فهو ميّت القلب والعقل والروح، لا مشاعر إنسانيّة فيه.
لا أتحدّث هنا عن الجانب السياسيّ أو العسكريّ، بل عن الموقف الإنسانيّ البسيط، ذلك الذي يستدعي منّا أن نتألّم لأخينا الإنسان، وأن نحسّ بآلامه. ومعرفتنا بالواقع يجب أن تقودنا إلى المسؤوليّة، ونصرة الحقّ، والوقوف إلى جانب المظلومين، ضمن القدرة المتاحة.
الله عزّ وجلّ لا يطلب من الناس ما لا يطيقون، لكنّه يسألهم عمّا استطاعوا فعله. فمن قال إنّك لا تستطيع أن تفعل شيئاً؟ إنّ كثيراً من الناس قادرون على الكثير، فابحثوا عن ما يمكنكم تقديمه: هل هو دعوة، تعاطف، موقف، كلمة حقّ، أو حتّى تفاعل بسيط مع الحدث؟
كلّ من بلغ سنّ التكليف -رجلاً كان أو امرأة- سيقف يوم القيامة ليُسأل عن موقفه من فلسطين ومن قضيّة هذه الأمة، وعن ما قاله، وفعله، وقدّمه. فيكون جوابه جاهزاً في الدنيا، قبل أن يُسأل عنه في الآخرة، حيث لا عذر ولا مهرب، ويظهر كلّ شيء في كتابٍ ناصعٍ لا يُكذِّب صاحبه. وذلك من أهمّ الامتحانات الكبرى التي تواجه البشريّة اليوم.
• ألسنا على الحقّ؟
نحن مسؤولون عن نصرة الحقّ، حتّى لو علمنا أنّ هذا الموقف سيواجَه بالاتّهامات، والضجيج، وكلمات التثبيط والتشكيك، فإنّنا لا نبالي. فإن كنّا لا نخاف الموت، فكيف نخاف أقلّ منه؟ وإن كنّا مستعدّين للتضحية بكلّ غالٍ ونفيس، فكيف نأبه بالأقوال التي تعبّر أحياناً عن الضعف، وأحياناً عن الخيانة؟
عندما ننصر الحقّ، نتحمّل التبعات السياسيّة، ونواجه هدم البيوت، وارتقاء الشهداء، وجراحات الإخوة والأحبّة، وفي قلب كلّ ذلك، لا يتزعزع موقفنا ولا نتراجع لحظة واحدة، لأنّنا نقول: «ألسنا على الحقّ؟»، فيجيب القلب والإيمان: «بلى، والذي إليه مرجع العباد!».
* من كلمة لسماحته (رضوان الله عليه) بتاريخ: 7/7/2024م.
1. الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 82.