السيّد د. علي عبد الله فضل الله(*)
يستسهل بعض الناس الاحتفال بأيّ مناسبة وافدة بدعوى الفرح، وربما يجهل أنّ من أخطر
الوسائل لتمرير الأفكار هي المناسبات العاطفية من فرح وحزن. خاصّةً أنّ الاعتراض
على مظاهر الابتهاج المرافقة لتلك الاحتفالات أصعب من وضع الملاحظات على المواقف
العاديّة؛ والسبب هو الحالة الانفعاليّة التي يعيشها الناس عادةً في هذه الحالات؛
الأمر الذي خلق "أزمة هُويّة" لدى بعض الأشخاص، فمن جانب هم مثلاً ملتزمون بفكر
معيّن، ومن جانب آخر تستهويهم مناسبات أصحاب فكر آخر.
* الانبهار بمناسبات الآخرين
في الأساس، إنّ السرور وانشراح الصدر أمران مرغوب فيهما ومباحان، بل وضروريّان
للنفس الإنسانيّة. وفي الأصل، إنّ الدين من حيث هو منهاج السعادة الحقيقيّة، هو
الذي يمنح الطمأنينة في القلب. ولكن الكلام هنا في استيراد مناسبات الآخرين متى
كانت هذه المناسبات تعبّر عن استلابٍ ثقافيّ وانبهارٍ نفسيّ بما يقدّمه الآخر؛
الغرب تحديداً. فمن المؤلم، مثلاً، أن نجد مدرسة، في بيئة ملتزمة، تواظب على تعليم
الأطفال الرقص على أغانٍ طربيّة مرفوضة في هذه البيئة، ومن المؤلم أكثر ضعف
الاعتراض على هذه الممارسات. ومن المؤلم أن نجد فتاة تدّعي التديُّن، وتكون شديدة
الحرص على الاحتفال بعيد "الفالنتاين"، مثلاً، أو نرى شابّاً مستنفراً "لإحياء" رأس
السنة بالمفرقعات المحرّمة أو الصراخ والقفز، وربّما التجاوزات الأخرى.
* غزو العقول
بدأت عمليّة غزو العقول مبكّراً بالاستعمار الذي وصفه "لامارتين" بأنّه "حقّ
الاحتلال"(1)!
عندما جاء نابليون إلى مصر، رافقه كثير من "المثقّفين". وعندما نشطت وزارة
المستعمرات البريطانيّة، والأنتربولوجيا الخاصّة بها، درست البيئات الإسلاميّة
وشخّصت نقاط ضعفها. كما قد جرى تنصيب حكّام موالين للغرب، قال عنهم "كولن باول"،
وزير خارجيّة أميركا السابق: "إنّ أكثر الناطقين باسم أميركا فاعليةً وتأثيراً
ليسوا هم الأميركيّين، بل وكلاؤهم المحلّيُّون من أهل البلاد الأصليّين"(2). وجهد
كثير من هؤلاء الحكّام في محو الثقافة الإسلاميّة والشعبيّة لاستبدالها بالنموذج
الغربيّ، إلى حدِّ الهَوَس. فقد استورد "كمال أتاتورك" شواهد القبور من الولايات
المتّحدة، كما أمر "أنورُ السادات" الصحفيّين بالتقاط صور له غير محتشمة تشبُّهاً
بالرئيس الأميركيّ!
* ثقافة مظاهر الفرح: بين الانفتاح والتغريب
مع صحوة الإسلام في العقود الأخيرة، عادت الأمور إلى الاتّزان قليلاً، واستعاد
المسلمون بعضاً من هُويّتهم الحضاريّة. فنجد "صمويل هانتينغتون" يشكو أنّه "في
الماضي، كان زعماء مسلمون يخبرون شعوبهم، بأن يجب أن نتغرّب (Westernize)، بينما
إذا قال هذا الأمر أيّ زعيم مسلم، في الربع الأخير من القرن العشرين، سيكون حالةً
فرديّة"(3).
بقي أنّ بعض الإعلام والأكاديميّات في بلادنا يزرع مفاهيم غربيّة في النفوس وعلى
الشاشات والأوراق، جيلاً بعد جيل؛ الأمر الذي خلق صراعاً بين دعاة الأصالة المنفتحة
وبين دعاة التغريب. ومن أبرز مظاهر هذا التنازع: ثقافة مظاهر الفرح والسعادة.
ففي احتفالات "رأس السنة"، مثلاً، يجب التنبيه إلى أنّ ما يجري لا علاقة له بالدين
المسيحيّ، بل هو شأنٌ تجاريّ بنزعةٍ استهلاكيّةٍ تحمل داخلها عناصر ثقافة خطرة.
فإقران الفرح وربطه بالمجون والرقص وكسر الحواجز يؤدّيان، تربويّاً وسلوكيّاً، إلى
الفساد دينيّاً أو اجتماعيّاً. وهنا بعض النقاط:
1- رمزيّة الشجرة: لا شكّ في أنّ الشجرة من أجمل ما خلق الله تعالى، لكن هنا
يكمن الخطر كما ذكرنا. فجماليّة الشجرة تنسحب على السلوك المرفوض، فيُصبح طبيعيّاً
ومقبولاً. من هنا، ندعو أن نُقرن الأمور الجميلة بقيم تربويّة ودينيّة رائعة. على
سبيل المثال، في ذكرى المبعث النبويّ الشريف(4)، أو ذكرى ولادة الإمام المهديّ عجل
الله تعالى فرجه الشريف، نجمع الأطفال، ونضع بين أيديهم من الهدايا والمفاجآت
السارّة ما يجعل عقولهم البريئة تربط تلقائيّاً بين الفرح والمناسبة. هذا يحدث في
كثير من البيوت، وينبغي تعزيزه والإبداع في مظاهر السعادة فيه.
2- الدين يرسّخ السعادة، لا المتعة: هنا لا بدّ من التذكير بأنّ الماديّين،
في سعيهم الجنونيّ للمتعة، فشلوا في إسعاد الإنسان فعلاً. ويجب التذكير بأنّ هناك
فارقاً مهماً بين السعادة (Happiness) والمتعة (Fun). فالأولى تنحصر في وجود منظومة
معرفيّة تؤمّن السعادة على المدى الأبعد، وهذه المنظومة ذات عناصر دنيويّة (الطبيعة،
الأمن، الهدوء..)، وفكريّة (العلاقة مع الخالق، ومعالجة إشكاليّة الموت).
أمّا المتعة، فهي مؤقّتة، وقد يعقبها أحياناً أسىً وندم. لذلك، نجد أنّ معدّلات
الضغط النفسيّ اليوم هي الأخطر في التاريخ، وأنّ أعلى نسب الانتحار موجودة في دول
توصَف شعوبها بأنّها سعيدة.
3- لأيّام الله هويّتها الخاصّة: صدق الفيلسوف المتمرّد ميشال فوكو حينما
سأل: "ماذا غير الدين يمكنه أن يؤمّن الدعم للمحن، وبعدها لثورة الشعب، الذي كان قد
صُدم بالـ"التنمية"، و"الإصلاح"، و"التحديث"، وكلّ مظاهر الفشل في النظام؟"(5).
فالدين، وخصوصاً الإسلام المحمّديّ، هو الوحيد الذي يجعل للناس مخرجاً، ويرزقهم من
السعادة من حيث لا يحتسبون. فهناك دعوة إلى إحياء
﴿شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ (الحج: 32)، و﴿بِأَيَّامِ
اللّهِ﴾ (إبراهيم: 5)، وإظهار ﴿الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23).
وهنا دعوة لإبراز هذه المظاهر الاحتفاليّة، وتنويعها، وتطويرها، وتوسيعها. فإنّ
أفضل طرائق الأمر بالمعروف هو الحكمة. والحكمة في زمن التواصل تقتضي إظهار مكنون
الفرح الصادق والحقيقيّ، ولا سيّما مع تعرّض الإسلام لأكبر عمليّة تشويه في تاريخه.
* مواجهة "التأطير الفكريّ":
هناك من يتحايل على المناسبات الإسلاميّة، فيقترح مثلاً تزيين أشجار في ولادة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو يردّد أغنية أجنبيّة في حفلة ما. هنا، لا بدّ
من الالتفات إلى نظريّة مهمّة اسمها "التأطير"، وتعني أنّ الآخر تمكّن من وضع إطار
لتفكيري، واحتمالات حدّدها هو، ومنعني من التفكير خارج "الصندوق". هذا الاستيراد
لمظاهر احتفاليّة ليس مضرّاً في نفسه، لو كنّا في عالم طبيعيّ، ولا نتعرّض لغزو
ثقافيّ مستمرّ. والسؤال هنا: هل عُدمت العقول إيجادَ طرق أخرى للاحتفال؟ ولماذا
الإصرار على نماذج محدّدة مسبقاً؟ نماذج تقلّد الآخرين فقط!
* تحديد الهويّة واستنهاض رموزنا
ما نحتاج إليه فعلاً هو:
- أولاً: تحديد الهويّة الحضاريّة لنا.
- ثانياً: الالتفات إلى حقيقة الاستهداف الثقافيّ الذي يحصل من خلال منابر
الإعلام والجامعات.
بعد ذلك، لدينا كثير من المناسبات الجميلة التي دعا القرآن إلى الاحتفال بها، وفي
ذلك أجر موصوف، وربّما صدقة جارية لدى كلّ نفس زرعت داخلها أهميّة هذه المناسبة أو
تلك. في المقابل، من الخطر ترك أطفالنا فريسة احتفالات مدرسيّة، أو شبابنا ضحايا
أنشطة جامعيّة، أو شعبنا متلقّياً لبرامج تلفزيونيّة مليئة بالإسفاف، تحت عنوان "الفرح".
كما يجب التنبّه إلى الأخطار التربويّة والاجتماعيّة والدينيّة في هذا الجانب.
* أصحاب الفرح الجميل
تذكّر دائماً أن للفرح وجهين: وجهٌ جميل، ووجهٌ خطير.
فغالباً ما يُطرح سؤال "البدائل" في مظاهر الفرح. والفرح بالتحديد حالة ذاتيّة،
أمّا بناء مؤسسات لصناعته فهو أمر جيّد. فمع الأسف، فإنّ مصطلح "وسائل الترفيه"
(Entertainment) بات له مدلول قبيح اليوم، وينبغي تنظيف مهنة "الترفيه" ممّا لحق
بها من استخدامات خاطئة.
المؤمنون هم أولياء الفرح الحقيقيّ، والشهداء هم الفرحون بما يأتيهم الله من فضله.
والترفيه والسعادة بالنسبة إلى المؤمن ليسا مجرّد حدث ممتع، بل تنطلق السعادة من
أعمال نفسه المطمئنة، وتنعكس على وجهه هشّاً وبشّاً، وعلى سلوكه الذي فيه دعابة،
وعلى إبداعه في تنويع الفرح، والقدرة على إدخال السرور إلى قلوب الآخرين.
(*) أستاذ حوزويّ وجامعيّ.
1- .Orientalism. Edward Said, P 179
2- جوزيف ناي، القوّة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ص181.
3- Samual Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of World
Order, P 213.
4- واظب العرب على إقامة احتفالات كبيرة في هذه الذكرى، لكن بعد نكسة 1967م، ادّعى
بعضهم أنّ الوقت وقت حزن، فتوقفت الاحتفالات بهذه المناسبة!!
5- Michel Foucault, Religion and Culture, p132.