الشيخ أحمد إسماعيل
الحديث عن الإسلام مسؤولية، والخوض في مضمونه العميق هو من الخطورة بمكان إذا لم نُحسن قراءته ومعرفته. فما أروع من الدين السماوي ديناً يحتكم إليه الناس في كل أمورهم، ومن هذا المعتقد الإلهي الذي يزرع الطمأنينة والسكينة ويعطي الأمل والسعادة لروّاده وطلابه. في الدعاء "اللَّهم عرّفني نفسك" مقدمة معرفة اللَّه هي في معرفة النفس وفي تجنب أشراكها.
* المعرفة في ظل هوى النفس
فإذا لم يوفّق السالك إلى معرفة اللَّه سيتخبط العشواء ويصبح كمحتطب ليلٍ في ظلام بهيم، حتى لو تعرّف على كثيرٍ من العلوم وحفظ المصطلحات، ودرس السنوات الطوال ليرفع من مستواه العلمي لا التقوائي والإيماني، فما أكثر الذين يحسبون أنفسهم من المتقين والعرفاء وهم ليسوا كذلك، بل يتمسّكون بحبائل أنفسهم، ويعلقون في شباك الجهل والجهّال وهم يتوهمون أنهم من أهل النسك والنسّاك، يقول أمير المؤمنين والعرفاء علي بن أبي طالب عليه السلام عن هؤلاء وغيرهم "وآخرُ قد تسمَّى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جُهَّال، وأضاليل من ضلاَّل، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، وقولٍ زور. قد حمل الكِتَاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه. يُؤَمِّنُ الناس من العظائم، ويُهوِّنُ كبير الجرائم، يقول أقِفُ عند الشبهات، وفيها وقع. ويقول: اعتزل البدع، وبينها اضطجع.
فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبَّعه، ولا باب العمى فيصدَّ عنه، فذلك ميّت الأحياء فأين تذهبون"(1). وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قوله: "ويلّ للذين يحتلبون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من لين ألسنتهم، كلامهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذِّئاب. يقول اللَّه تعالى : "أبي يغترون، أم عليَّ يجترِؤون؟ فوعزَّتي وجلالي، لأبعثنَّ عليهم فتنةً تذَرُ الحليم منهم حيران"(2). أمام هذين الحديثين وغيرهما تظهر لنا الصورة وبجلاء لا يقبل الجدال والشك، وهي توضح المعنى السلبي الذي يمكِّن المتصوّف أو العابد، الزاهد أو الناسك، أن يختار رباً آخر أو دروباً لا توصله حتماً إلى اللَّه، بل توقعه في وادٍ سحيق من الجهل والجهالة وساعتئذ يصدق عليه قول رب العالمين: ﴿ققُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: 103- 102).
* الإنسان الكامل هو الدليل
فالمسألة هي في غاية الأهمية لئلا يكون السالك قد سلك غير الطريق، وهي تتطلب الدقَّة والحذر حتى لا يرتطم في جدار الحُجُب وهو يظن أنه يخترقها، وعلى ضوء ذلك فالعرفان العملي هو الذي يتكفَّل بتبيان علاقة الإنسان مع نفسه ومع ربه، ومع المجتمع، وهو يُسمّى بالسير والسلوك الذي يوصله إلى قمة الإنسانية بعد تعرّفه على قمة التوحيد، وبعد ذلك سيطوي السالك المراحل والمنازل، ففي الحديث: "الطرق إلى اللَّه بعدد أنفاس الخلائق" فالسير هذا محتاج إلى دليل، وقد أكّد بعض العارفين على دور المُرافق أو المعلِّم، لأن السير دون مرافقة إنسان كامل، فيه من المخاطرة ما يؤدي إلى الضلال، وقد اعتاد العرفاء على تسمية المرافق بطائر القدس أو بالخضر إلفاتاً إلى موضوع قصة النبي موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام فيقول حافظ الشيرازي:
خذ بيدي يا طائر القدس وكن معي
فطريقي طويل وأنا حديث عهد بالسفر
... لا تطوينَّ هذي المراحل دون "خضرٍ"
إلى أن يقول:
ظلماتٌ هي حذارِ حذارِ أن تضِلَّ فيها...
* سبب التيه هو النفس
فمن يتيه عن الصراط ويبتعد عن المنهج الحق فلا ينبغي أن يحمِّل الدين المسؤولية، بل الفهم القاصر الذي يمنعه عن العروج، والإدراكات الضيقة التي تصدّه عن سيره وسلوكه إلى اللَّه، هي التي تتحمّل كل المسؤولية وهي التي تشكِّل العائق والحاجب الذي يصدّ العباد عن ربِّهم، فكما لا يحق للأخرس أن يشرح الأبعاد الحقيقية للإسلام. أو الأعمى أن يصف المناظر الخلاّبة والجميلة، فلا يحق لمن فهم من الدين والإسلام شيئاً أن يحدّثنا عن أسراره أو يشير بأعماله وأفعاله إلى الدين وكأن الدين هو ما تنطقه جوارحه، فليس من الدين ما يفعله بعض السُّذج من قبيل تحمل ألبسة الصوف في شدة الحر وليس من الدين ما يتوهمه الواهمون من أن الابتعاد عن الناس والخلوة باللَّه هي الانقطاع إلى اللَّه، كما يحلو لبعض المتصوفين أن يعبِّروا، فهل اللَّه يأمر هؤلاء أن يتركوا المجتمع والناس ليخلوا مع أنفسهم حتى يفخر بعضهم بأنه لا يغتسل إلا الواجب ولو مضى فترة طويلة، أو لا يزيل الشعر الزائد ويرتب محاسنه وثيابه، فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يقول: "النظافة من الإيمان" وهم يعملون عكس ذلك، والرسول صلى الله عليه وآله يقول: "إن اللَّه جميل يُحب الجمال" وهم يعاكسون الحقيقة النبوية الشريفة، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يقول: "لا رهبانية في الإسلام" ويعمل هؤلاء لتكريس الرهبانية في الإسلام، فهل هؤلاء حقاً مسلمون؟ وهل هم يعملون من وحي الإسلام؟
* الأساس هو الدافع
ألا يدّعي هؤلاء أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو إمام للعارفين، لكن هل باستطاعة هؤلاء أن يثبتوا أن أمير المؤمنين عليه السلام اعتزل الناس ولبس الصوف وتخلّى عن واجباته الاجتماعية؟ وهل باستطاتهم إرشادنا إلى خيمة كان يتخذها الأمير عليه السلام من أجل ذلك؟ لقد كان عليه السلام المحارب الأول في معارج الإسلام، والعابد الخاشع الباكي في جوف الليالي، كان الحاضر في المجتمع وفي كل ميادين العمل، الحاضر في السوق والمرشد للتجار، والجالس على دكَّة القضاء، والذي يحلّ الخصومة بين الناس والنزاعات، يقول الإمام الخميني قدس سره "لا الاعتزال الصوفي دليل الارتباط بالحق، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الانفصال عن الحق، الميزان في الأعمال هو دوافعها"(3) فالدافع هو الأساس، فمن كانت دوافعه إلهية حتى لو شكّل حكومة وعُين في منصب مهم فعمله للَّه، وهو في عين اللَّه ورعايته، ومن كانت دوافعه شيطانية فهو تحت مرمى إبليس وإن لبس الصوف والثوب الخرق، يقول الإمام الخميني قدس سره "كل ما يجري علينا وكل ما نبتلى به هو من حب النفس، ومن هذه الأنانية، التي هي أسوء من كل الأعداء، وأكبر من كل الأوثان... نقول اللَّه بألسنتنا ولكن الذي في قلوبنا هو أنفسنا، نريد اللَّه لأنفسنا فإننا نقف ونصلّي ونردد ألفاظ "إياك نعبد وإياك نستعين" ولكن العبادة هي في الواقع عبادة النفس... جميع هذه المصائب التي تحلُّ بالإنسانية ناشئة من هذه النقطة من أنانية الإنسان"(4).
لقد كان الجُنَيْد البغدادي من المعرضين عن الدنيا، لكنه لم يلبس ملابس الصوفية، بل كان يتزيَّ بزي العلماء، وقد سُئل عن ذلك: ألا تلبس الخِرقة(*) فقال: "ليس الاعتبار بالخِرقة، إنما الاعتبار بالحُرقة" (أي حُرقة القلب) وهو ما يذكرنا بموعظة النبي موسى عليه السلام حينما كان يعظ ويخطب في جمع من الناس، حيث اعتبر واحد من الحضور وصار يمزّق ملابسه فقال له عليه السلام فيما معناه: لا تمزّق ثوبك، بل مزق قلبك، أي اجعل قلبك يهتز للموعظة ولتؤجج مشاعر الشوق فيه، فالقلب وما فيه أهم بكثير من كل شكلية للبدن، وتفاعلات القلب وأحاسيسه أفضل من كل أفعالٍ يمكن لصاحبه أن يمزق قميصاً تارة، أو يلطم على رأسه أخرى، أو يُعذّب الجسد ثالثة.
فاللَّه تعالى يريد من الإنسان أن ترقى إليه، أن يصعد ويترقى إلى عالم الكمال، لا يريده أن يتعلق في أوحال الدنيا، ولا أن يسيء إلى نفسه عبر تعذيب الجسد بوضعه في الماء البارد حتى يُصاب بالمرض، ولا أن يضع يده أو رجله في الماء لسنوات طويلة، ولا أن يطيل لحيته حتى تصل إلى الأرض، ولا أن يفهم النبي صلى الله عليه وآله كما يريد، والولي كما يحب أن يراه، ولا أن يتعاطى مع الأئمة الأطهار ظناً منه أنهم معه مهما كانت حالاته وأفعاله. وعلى أي حال فالحديث في هذا المضمار طويل، والنماذج البشعة التي تقدّم الصور التي لا تنسجم مع سماحة الإسلام هي كثيرة كثيرة، وسنكتفي بما تقدم ونختم القول والمقال بقول اللَّه العالمين: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ (الكهف: 28).
(1) نهج البلاغة، 214.
(2) البحار، 173 77، عن كتاب أعلام الدين.
(3) وصايا عرفانية للإمام الخميني، ص54.
(4) رشحات ملكوتية، مركز باء للدراسات، ص79.
(*) مدرعة خرقاء من صوف يلبسها صاحبها للدلالة على الإعراض عن الدنيا.