ايفا علوية ناصر الدين
كانوا في ريعان شبابهم عندما سرقت منهم الهمجية واللاإنسانية الصهيونية سنوات من عمرهم الفتي وسجنتها في زنزانات القهر والتعذيب فتكسّرت بين جدرانها ملامح المستقبل الذي رسموا خطوطه بأحلامهم وطموحاتهم وتطلعاتهم إلى تحقيق ما تصبو إليه أنفسهم. سنوات من عمرهم الفتي قضوها خلف قضبان سلبتهم الحرية ومنعتهم من الحركة والانطلاق التي تتميز بهما روح الشباب، لكنها ما استطاعت أن تقتل فيهم روح التحدي والعنفوان أو تنزع من قلوبهم حرارة الإيمان باللَّه والانتماء للمقاومة والاستعداد لنصرة الحق مهما بلغت التضحيات.
* عشر سنوات في الأسر
كان محمد بدير في السابعة عشرة من عمره يُكمل دراسته الثانوية عندما اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي بسبب نشاطات له في إحدى الوحدات الجهادية داخل المقاومة الإسلامية التي توجه للانخراط في صفوفها عن "قناعة تامة بخيارها واستعداد كامل للتضحية حتى الشهادة"، بالرغم من أن تطلعات بعض الشباب تنصب في هذه المرحلة من أعمارهم نحو "التوجه للدنيا وملذاتها ومباهجها إلاَّ أنَّ الضوابط الإيمانية والأخلاقية التي يلتزم بها الشاب تحدّ من هذا الاندفاع". عشر سنوات قضاها محمد في الأسر متنقلاً بين عشرة سجون للعدو الإسرائيلي داخل فلسطين المحتلة، لم يكن خلالها يعتقد أن مدة اعتقاله سوف تطول إلى هذا الحد، بل كان على أمل دائم بالخروج في كل سنة وكانت أصعب فترة مرَّت عليه هي فترة الاعتقال الأولى التي تكون في العادة صعبة جداً مهما بلغ عنصر التكيف عند الإنسان وقابليته لتطبيع نفسه على الأجواء الجديدة حيث "ينتقل الأسير من منظومة اجتماعية إلى أخرى مع كل الخلاف الموجود بين الاثنتين وحيث يجد الشاب نفسه داخل أسوار الأسر مع أعراف وضوابط ومحاذير ومخاوف جديدة، وهذا يخلق في داخله حالة تصادمية إلى حين يستطيع الانسجام مع الواقع الجديد".
وأثناء هذه الفترة التي تكون أيضاً بمثابة مرحلة الانفطام عن الروابط العاطفية سواء مع الأهل أو مع العائلة والأولاد إذا كان الأسير متزوجاً يتعرض الأسير للتحقيق الذي يمتد من شهر إلى ستّة أشهر، لا يفكر فيها بشيء سوى في "مواجهة أساليب المحقق وكيفية الصمود بوجهه والصبر على التعذيب الذي يكون مركّزاً جداً". وبالإضافة إلى هذه الآلام التي يسببها الانعزال عن المجتمع والتعرض للتعذيب فإن محمداً كان يعيش حسرة كبيرة على العمل المقاوم حيث "كان البعض يبكي عند السماع عن عملية قامت بها المقاومة، يبكي لعدم كونه مشاركاً فيها".
الأيام التي كانت تمر في المعتقل كان محمد يقضيها مع رفاقه في الزنزانة يتحدثون عن الأمور السياسية وعن أحوال الاعتقال وعن الأوضاع الشخصية من شجون وهموم وذكريات وكان لا بد أيضاً من استغلالها فيما يعود عليهم بالفائدة لذلك توجهوا نحو القراءة والمطالعة. يقول محمد: "العمر الذي اعتقلنا فيه يُعدّ بمثابة الفترة التشكيلية للمعرفة عند الشاب ونحن تقريباً نكاد نكون أميين على المستوى الثقافي فتوجهنا إلى دراسة الكتب الإسلامية، وتوجه مجموعة من الأسرى لدراسة اللغة العبرية ودراسة العدو وبعضهم حقق انجازات في ذلك".
* تقبُّل المعاناة بكل قساوتها
فرصة الاستفادة هذه لم تكن متوفرة في معتقل الخيام الذي قضى فيه أحمد يحيى حوالي ثمان سنوات ونصف من شبابه، فلم يكن ادخال الكتب مسموحاً لكن رغبة الأسرى في الاستفادة من أوقاتهم كانت تدفعهم لتبادل الدروس شفهياً: "كان هناك نظام أشبه بالمدرسة حيث كنا نقضي الفترة الممتدة من بعد تناول الفطور إلى وقت تناول الغذاء بتبادل الدروس اللغوية والقرآنية والعلمية فكان كل من يمتلك معلومات ينقلها إلى الآخرين وظل هذا الوضع مستمراً إلى حين سمحوا بدخول الكتب قبل سنة ونصف من خروجي من المعتقل".
أحمد الذي تم اعتقاله في عمر 19 سنة وهو يكمل دراسته في المرحلة الثانوية حرمته سنوات الاعتقال من تحقيق طموحه في إكمال دراسته والتخصص في الهندسة التي كانت هدفه المنشود قبل دخوله المعتقل، وحرمته أيضاً من طموحه الذي استجد داخل المعتقل وهو ميله للتخصص في العلوم الدينية نتيجة حالة التقرب من اللَّه الذي لم يكن إلى جانبه وهو يجلس وحيداً في زنزانته المظلمة سوى ذكره تعالى، يؤنسه ويخفف من آلامه ويجعله يتقبل المعاناة التي كانت تهون وهو يشعر أنها في سبيله عزَّ وجلَّ مهما بلغت درجة قساوتها عليه. يتذكر أحمد الغرفة الصغيرة التي لا تتعدى السنتميترات والتي قضى فيها حوالي شهرين خلال فترة التحقيق الذي تعرَّض فيها للتضييق والتعذيب الجسدي بأقسى أنواعه فكانت مرحلة صعبة ومؤلمة لم يساعده على تحملها إلا إصراره على إيمانه بالطريق الذي مشى فيه وهو طريق المقاومة التي كانت "سبيل الخلاص الوحيد" من كل ما كانت تتعرض له عائلته كغيرها من العائلات التي كانت تسكن داخل قرى الجنوب المحتلة آنذاك "كانت إسرائيل تفرض على الأهالي التعامل معها وكان العملاء يلجأون للتضييق علينا وإهانتنا وإزعاجنا في منزلنا في الليل، إلى غيرها من الأساليب التي كانت متَّبعة لإخضاع الناس، كنا نعيش أجواءً مرعبة وكانت حركتنا مقيدة وكل هذا كان يدعونا للقيام لاستئصال الظلم والدفاع عن كرامتنا".
بعد انتقاله إلى الغرفة الجماعية المظلمة التي لم تكن تتجاوز المترين والتي كان يوجد فيها من خمس إلى ست أسرى، لم تنته معاناة أحمد الذي كان يتألم لعذاب والدته وهو يتخيلها واقفة على شرفة منزله المطل على معتقل الخيام تبكي لأجله ويحترق قلبها وهي تعلم أنه يتعرض للتعذيب ولا تستطيع أن تفعل له شيئاً، لكن بعد مرور عدة أشهر على اعتقاله "يخرج الأسير من دائرة التفكير ويعيش في جو من التأقلم متقبلاً الواقع بكل مرارته واستفزازاته" ومن الاستفزازات فرض بعض الأمور على الأسرى والتضييق عليهم من قبل عناصر المعتقل مثل "منع الكلام داخل الغرف ومنع رفع الصوت في الصلاة والدعاء والمضايقات أثناء شهر رمضان وفرض تناول الطعام الذي كان قليلاً جداً تحت الأغطية إضافة إلى إطلاق الشتائم على الأسرى ومضايقتهم عند حصول أية عملية ناجحة للمقاومة، وغير ذلك كثير من الضغوط النفسية التي كانت تمارس على المعتقلين من أجل إبقائهم في حالة معاناة دائمة".
* شاهد على اللاإنسانية الصهيونية
علي فواز الذي اعتقله جنود الاحتلال في عمر الواحدة والعشرين من أرض المعركة بعد إصابته بجراح بالغة أثناء مشاركته في إحدى عمليات المقاومة الإسلامية، أمضى أربع سنوات ونصف في معتقلات العدو في فلسطين المحتلة وهو يعيش مرارة الألم جراء وضعه الصحي السيء، وخصوصاً في الفترة الأولى لاعتقاله حيث كان بحاجة إلى معالجة سريعة ليده وفخذه التي كانت إصابتهما بليغة مما يستدعي إجراء عملية لهما وعندما أدخله الصهاينة إلى المستشفى "العسكري" كان عليه تحمل الآلام الجسدية الحادة التي كان يشعر بها إضافة إلى الضغط النفسي الكبير الذي مارسه الأطباء والممرضون والمحققون. يتحدث علي عما حصل معه آنذاك: "كان الطبيب يعالج لي الجروح من دون وضع أي مخدر وهذا كان يسبب لي أوجاعاً كبيرة وكان الممرضون عندما يدخلون إلى غرفتي أو حتى عندما يمرون بقربها يبدأون بإطلاق الشتائم ويبصقون في وجهي وينعتوني بالإرهابي فكانت معاملتهم قاسية جداً ولا تمت للإنسانية بأية صلة".
وبعد الخروج من المستشفى بقي علي في زنزانة انفرادية صغيرة ومظلمة حيث وُضع على سرير كانت (فرشته) رقيقة إلى درجة كان يشعر فيها أنه ينام على لوح حديدي وهذا كان يزيد من آلامه وهو الذي لا يستطيع الحركة أو القيام. أما بالنسبة إلى المعالجة الطبية التي كانت معدومة فقد زادت وضعه سوءاً حيث تقرّحت جروحه التي "أكلتها الديدان" ولم يكن هناك من دواء إلا رحمة اللَّه ورعايته التي جعلت وضعه يتحسن تدريجياً فيما بعد باستثناء الأسلاك المعدنية المركبة في يده وفخذه والتي بقيت حتى صارت مخلخلة وهو في انتظار الموافقة على إجراء عملية لنزعها، وعندما جاء يوم إجراء العملية تفاجأ علي بقيام الطبيب بمحاولة فكها من دون وضع أي مخدر، وهذا ما لم يستطع أن يتحمله فقد قفز يومها عن السرير وصار يصرخ في وجههم فتركوه وذهبوا، وعندما اشتكى إلى طبيب المعتقل الذي أبدى شفقته وإنسانيته "للوهلة الأولى" واستعداده لمساعدة علي على نزعها "بإنسانية" تفاجأ علي أيضاً بمحاولته القيام بنزعها بواسطة "كماشة كهرباء" بحجة أنه لا يمتلك عدة طبية في العيادة ولم يكن على علي حينها إلا التحمل والصبر من أجل الخلاص.
في قصة علي فواز الكثير من الحوادث والأخبار ومنها ما حصل مع أهله الذين تبلَّغوا نبأ استشهاده عندما جاءت الأخبار بأن الصهاينة اعتقلوا جثته من أرض المعركة فتقبلوا هذا النبأ وأقاموا مراسم التعزية والتبريك التي استمرت إلى ما قبل ذكرى الأربعين، حين وصلت منه رسالة أنبأتهم بأنه ما زال على قيد الحياة. لقد كان الامتحان الذي مرَّ به علي فواز صعباً جداً، لكن من كان مستعداً قبل اعتقاله لتقديم روحه وجسده وكل ما يملك في سبيل هذا الخط الحسيني لا يقف عند حدود أي معاناة يتوخى منها "طاعة اللَّه ورضاه وثوابه" وهو يعلم في صميم نفسه "أن هناك قدرة خفية ستدافع عنه وتحميه وتنصره وتعينه على تخطي كافة المراحل".
* ضغوط نفسية وجسدية
وإذا كان التعذيب الجسدي والضغوط النفسية المركَّزة يُعدان كقواسم مشتركة تجمع بين الأسرى شباناً وفتيات، نساء ورجالاً، مهما اختلفت أعمارهم وتفاوتت، فإن هناك الكثير من الصفات التي يحملونها كقواسم مشتركة بينهم كالصبر والمواجهة والتحدي والعنفوان والإصرار على خط المقاومة، ولعل أبرزها عدم الندم على الطريق الذي مشوا فيه ما دام في رضى اللَّه وتحت نظره. هذا ما تؤكده هنيَّة رمضان التي اعتقلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي مع أخيها مصطفى وكان عمرها آنذاك خمسة وعشرين سنة حيث كانت تعيش مع أهلها في قريتها المحتلة بيت ياحون وذلك بسبب نشاطات مع المقاومة الإسلامية كانا يقومان بها دفاعاً عن أرضهم التي لم يكونوا يستطيعون "التحرك فيها بحرية ولا الخروج منها إلا بتصاريح تُعطى للأهالي بعد محاولات الإذلال والإهانة ثم التعذيب الذي كان يمارس على المعابر".
قبل اعتقالها كان طموح هنيَّة إكمال دراستها التي منعتها ظروف الاحتلال من متابعتها فعاشت كسواها من الفتيات اللواتي كن يحلمن ببناء أسرة والعيش بهدوء وأمان في الأرض التي ولدوا وعاشوا فيها، إلا أن وجود الاحتلال لم يكن ليدعهم يعيشون بسلام وهم يشعرون أنهم في سجن وقيود لا يستطيعون تحملها. في المعتقل تجسَّدت معاناة هنيَّة في الأيام الأولى من اعتقالها بالعذاب النفسي الهائل الذي كانت تشعر به وهي تسمع صراخ أخيها من جراء التعذيب المبرح وكان هذا يؤلمها كثيراً وهي جالسة في زنزانتها الانفرادية. ولا تنسى أيضاً مشاهد التعذيب التي كانت تتعرض لها الأسيرات من التهديد بالكهرباء وصب الماء الساخن والبارد والوقوف تحت المطر والنوم على الأرض والجلد (بالكرباج) إضافة إلى إصابة الكثيرات منهن بأمراض سوء التغذية وأمراض تنفسية وجلدية مختلفة، ومن صور المعاناة التي تحملها هنيَّة في ذاكرتها هو اقتصار مدة السماح لهن بالحمام وغسل الثياب بعشر دقائق فقط، عليهن الانتهاء خلالها، وعدم رؤيتهن لنور الشمس في مواعيد محددة وغير ذلك كثير.
لقد بقيت هنيّة رمضان في معتقل الخيام حوالي سبع سنوات وبقي أخوها مصطفى خمس سنوات لم تره فيها أبداً وهو الذي ساءت حالته الصحية إلى درجة كبيرة زادت سوءاً بعد خروجه حيث عاش بعد ذلك أربع سنوات في المرض إلى أن تقبَّله اللَّه شهيداً من شهداء المقاومة والاعتقال.
* نعمة إلهية كبرى
محمد بدير، أحمد يحيى، علي فواز وهنيّة رمضان وغيرهم كثيرون، شباب قضوا سنوات من أعمارهم في معتقلات العدو الإسرائيلي يتحمَّلون أقسى أنواع التعذيب والمعاناة وكل ذلك بسبب رفضهم للظلم وامتلاكهم روح المقاومة وعدم الخضوع والاستسلام. وبعد هذه السنوات خرجوا إلى الحياة من جديد بعنفوان أكبر وإصرار أشد على إكمال السير في طريق المقاومة معتبرين أن تلك المعاناة ما هي إلا تجربة عاشوها تخللتها الكثير من الآلام والسلبيات إلا أنهم ينظرون إليها الآن على أنها نعمة إلهية كبرى ووسام شرف. يعتبر علي فواز وهو الآن متزوج ولديه ثلاثة أولاد أن مفهوم القيود يختص بمن لا يستطيعون التخلي عن ملذات الدنيا ومغرياتها، ويتساءل مشيراً إلى أهمية هذه الفترة الذي قضاها في المعتقل في توطيد علاقته باللَّه سبحانه وتعالى: "هل العبادة والجهاد والشعور بروحية عالية قيود؟".
أحمد يحيى، أيضاً هو الآن متزوج ولديه طفلة وهو يعتبر أن هذه التجربة ساهمت في صقل نفسه وغربلتها وفتحت له الآفاق وجعلته مؤهلاً للانخراط في المجتمع بشكل فعّال، وبالرغم من أنها حرمته من نيل الشهادة العلمية التي كان يطمح إليها فهو يحمل الآن "شهادة في الكرامة والمواجهة والصمود".
أما محمد بدير فيعتبر أن هذه التجربة "من أعظم النعم الإلهية عليّ فأنا لم أخسر شيئاً بل ربحت على صعيد التحصيل العلمي وعلى الصعيد الشخصي، حيث ساهمت فترة اعتقالي مساهمة كبيرة في صقل شخصيتي وتنمية عنصر الوعي والمسؤولية". كذلك الأمر بالنسبة إلى هنيَّة رمضان التي تقوم الآن بتربية ابنة أخيها الشهيد فهي تقول "هذه التجربة لم تحرمني شيئاً بل زادتني إيماناً وقوة وصبراً ويكفيني الافتخار بها وبشهادة أخي".