الشيخ أكرم دياب
يقول اللَّه تعالى في كتابه الكريم:
﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ
وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا
شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا
فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا
مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
﴾ (هود: 105-108). كثيراً ما يراودنا التفكير حول السعادة، وتتداعى الأفكار
والأسئلة العديدة:
ما هي السعادة؟
كيف أكون سعيداً؟
ما السبيل إلى السعادة؟
وهل هناك سعادة كاذبة؟
كلها تساؤلات تستحق منا الوقوف عندها والإجابة على بعضها، ولذلك لا بد من الإشارة
إلى بعض الأمور المستفادة من تتبعنا للآيات القرآنية والروايات الواردة عن لسان
المعصومين عليهم السلام...
* ما هي السعادة:
من الواضح أن المقصود بالسعادة بحسب لسان الآيات والروايات هي السعادة الأخروية وأن
الإنسان مهما كان سعيداً في الحياة الدنيا ولم تختم حياته بخير فإن ذلك من الشقاء،
ومهما كان يعيش في حالة من الشقاء والعذاب في الحياة الدنيا فإن ختمت حياته بخير
فإن ذلك من السعادة، يقول الإمام علي عليه السلام : "إن حقيقة السعادة أن يختم
للمرء عمله بالسعادة، وإن حقيقة الشقاء أن يختم للمرء عمله بالشقاء"، وهذا هو
المفهوم من الآيات الواردة في سورة هود المذكورة آنفاً "فأما الذين شقوا ففي
النار... وأما الذين سعدوا ففي الجنة" حيث أن السعادة والشقاء حالتان يؤول إليهما
وضع المرء في الآخرة بحسب حاله في الدنيا من ارتباط وعلاقة مع اللَّه أو عدمهما من
هنا يمكن القول أن السعادة خاتمة عمل المرء وثمرة يجنيها في الدار الآخرة.
* موجبات السعادة وأسبابها:
ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "السعادة سبب خير تمسَّك به
السعيد فيجره إلى النجاة، والشقاوة سبب خذلان تمسَّك به الشقي فيجره إلى الهلكة،
وكل بعلم اللَّه تعالى". وعن الإمام علي عليه السلام: "السعادة ما أفضت إلى
الفوز". وعنه عليه السلام: "إن اللَّه قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه
فشقاوةٌ لازمة أو سعادةٌ دائمة". ومن الواضح أن في هذه الروايات دلالة بيّنة
على أن المؤمن لو سلك طريق الخير وسبيل الحق وتمسك بأسبابهما (مهما كانت هذه
الأسباب والسبل) لكان ذلك مؤدياً للنجاة من النار وسبباً للفوز برضاه تعالى يوم
تسود الوجوه، عندها تسطع شمس السعادة ويطمئن القلب ويعلم أن كلَّ ما عاناه في
الحياة الدنيا قد قطفت ثماره في الآخرة.
* آثار معرفة السعادة الحقيقية:
مما ذكر نعلم أن من أهم الآثار المرجوَّة لمثل هذه المعرفة للسعادة الحقيقية الرضا
بقضاء اللَّه والتسليم له والتوكل عليه مهما بلغت التضحيات ومهما كَثُرت التكاليف
وعانى المؤمن للوصول إلى غايته الأسمى للفوز بالنجاة وجوار اللَّه، وهذا ما أشار
إليه سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام عندما رمى حرملة بن كاهل الأسدي طفلهُ
عبد اللَّه بسهم فذبحه فقال لزينب: سلام اللَّه عليها: "خذيه" ثم تلقّى الدم بكفيه
فلما امتلأ رمى به نحو السماء ثم قال: "هوَّن عليّ ما نزل بي أنه بعين اللَّه".
والأمثلة الواردة في هذا المضمار كثيرة جداً لا مجال لذكرها ولكنه من الواضح أنّ
بلوغ هذه المرتبة والتحلي بهذه الخصلة الفريدة هي من أهم الآثار المعنوية والروحية
لمثل هذه المعرفة بالسعادة الأخروية.
* أنواع السعادة:
هناك كثير من الروايات أشارت إلى بعض التطبيقات العملية التي تُعد من علامات
وأمارات السعادة مع ملاحظة أن ما أشارت إليه وإن كان بحسب الظاهر من متعلقات الدنيا
ولكنها وفقاً لما ذكرناه فإن الأمر لا يتعلق بكونها من موجبات السعادة الدنيوية بل
أيضاً بما تؤول إليه في الآخرة من سعادة لا زوال لها كما في الرواية الواردة عن
النبي صلى الله عليه وآله: "من سعادة الرجل الولد الصالح". واضح أن مثل هذه
الروايات تشير علاوة عن راحة البال في الدنيا إلى السعادة التي تلحق الوالد من ولده
لصلاح ولده ودعائه له بالخير بعد مماته، ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه
السلام: إن فلاناً رجل سمّاه قال: إني كنت زاهداً في الولد حتى وقفت بعرفة، فإذا
إلى جانبي غلام شاب يدعو ويبكي ويقول: يا ربِّ والدي والدي، فرغَّبني في الولد حين
سمعت ذلك. بناءً عليه أذكر بعضاً من هذه العناوين الواردة في مثل هذه
الروايات مما يعد من السعادة:
أ- التوفيق للعمل الصالح: فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "من السعادة التوفيق
لصالح الأعمال".
ب- طاعة اللَّه سبحانه: عنه عليه السلام أيضاً: "لا يسعد امرؤٌ إلا بطاعة اللَّه
سبحانه...".
ج- إقامة حدود اللَّه: عنه عليه السلام أيضاً: "لا يسعد أحد إلا بإقامة حدود
اللَّه...".
د- خلو الصدر من الغل والحسد: الإمام علي عليه السلام: "خلو الصدر من الغل
والحسد من سعادة العبد".
هـ - السخاء: الإمام علي عليه السلام: "السخاء إحدى السعادتين".
و - الكتمان: عنه عليه السلام: "الكتمان طرف من السعادة".
ز- التوفيق في الحياة الاجتماعية، الإمام الصادق عليه السلام: "ثلاثة من
السعادة: الزوجة المؤاتية، والولد البار، والرزق يرزق معيشةً يغدو على صلاحها ويروح
على عياله".
وهكذا فإن كثيراً من الروايات الأخرى تشير إلى تطبيقات وأمارات وعلامات كثيرة لمثل
هذه السعادة المرجوة وهو مما يدل باليقين إلى أن السعادة الحقيقية هي خاتمة كل سبب
خير وسبيل صلاح يسلكه الإنسان المؤمن نحو اللَّه تعالى بإخلاص النية وطلب القبول.
* أمارات السعادة:
والمقصود من الأمارات العلامات التي تشير إلى الظفر بالسعادة والفوز بها وإدراكها،
وأهمية ذلك يكمن في ضرورة معرفة الحال واختبار النفس للسعي إلى تدارك ما أمكن فيما
لو لم نكن في فلك السعداء وينبغي أن نردّد هذا السؤال في أنفسنا:
هل نحن من السعداء أم نحن من الأشقياء؟
المعصومون سلام اللَّه عليهم لم يتركوا هذه المشكلة دون حل وإنما أشاروا إلى بعض
العلامات التي يمكن من خلاها معرفة الجواب وتركوا لنا العزم والإرادة لإصلاح ما فسد
وتطهير ما خبث من أنفسنا الأمَّارة بالسوء، وهنا أشير إلى أربع أمارات واحدة منها
للنبي صلى الله عليه وآله وثلاث لأمير المؤمنين عليه السلام: حضور الأجل وذهاب
الأمل: فعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "إذا استحقت ولاية اللَّه والسعادة
جاء الأجل بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر، وإذا استحقت ولاية الشيطان والشقاوة
جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر"، فالمؤمن لو أدرك أن السعادة
الحقيقية هي في الآخرة وأنها هي الباقية دون غيرها وأن كل ما عداها من متعلقات
الدنيا هو إلى زوال تحوَّل قلبه إلى المعشوق الأوحد وزهد في الدنيا ورغب في الآخرة
لأنه علم أن فيها خَلاصَهُ وفيها راحته ومستراحه وفي الحديث القدسي: "يا أحمد إن
أهل الآخرة لا يهنئهم الطعام منذ عرفوا ربهم، ولا يشغلهم مصيبة منذ عرفوا سيئاتهم،
يبكون على خطاياهم، يتعبون أنفسهم ولا يريحونها، وأن راحة أهل الجنة في الموت،
والآخرة مستراح العابدين، مؤنسُهم دموعهم التي تفيض على خدودهم، وجلوسُهم مع
الملائكة الذين عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومناجاتهم مع الجليل الذي فوق عرشه، وأن
أهل الآخرة قلوبهم في أجوافهم قد قرحت يقولون متى نستريح من دار الفناء إلى دار
البقاء".
دوام العبادة: عن علي عليه السلام: "دوام
العبادة برهان الظفر بالسعادة"، وذلك لإدراك أن السعادة إنما تتجسد في حقيقة
التوجه له جلّ وعلا والارتباط به دون غيره وإكثار ذكره لئلا يؤدي الابتعاد عنه إلى
خسرانها والتملُّص من أداء حق العبودية والطاعة.
إخلاص العمل:
عنه عليه السلام: "أمارات السعادة إخلاص العمل"، لأن الأعمال
ما لم تكن خالصة له سبحانه لزم بطلانها وبالتالي الخسارة العظمى التي لا مثيل لها،
يقول تعالى في سورة الكهف 103 - 104:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعًا﴾.
المبادرة إلى الخيرات: عنه عليه السلام:
"درك السعادة بمبادرة الخيرات والأعمال الزاكيات"، لظهور أن هذه الأعمال
الزاكيات والمبادرة إلى الخيرات سبب لارتقاء الدرجات والوصول إلى الجنَّات وأن أعظم
درجات السعادة منوطة بالتوطئة الجادة وتمهيد السبيل لبلوغ هذه الغاية وزرع الطريق
بالبذور الصالحة، لأن جناها يقطف بعد حين.