من درجات التفكّر، ما يتعلّق في أحوال النفس، وهذا يؤدي
إلى نتائج كثيرة ومعارف عديدة. وسنلقي، في ما يأتي، نظرة على نتيجتين، الأولى، هي
العلم بيوم المعاد، أما الثانية، فهي العلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، أي النبوّة
العامّة، والشرائع الحقّة.
*هذه القوى تزداد كمالاً
إنّ من حالات النفس تجرّدها، وهي حالة لم يُولِ الحكماء العظام أهميّة لأيّة مسألة
حكميّة فلسفيّة أخرى مثلما أولَوا هذه المسألة وأثبتوها بالأدلّة والبراهين. ولكننا
لسنا بصدد إثبات تجرّد النفس بصورة مفصّلة، وإنّما نكتفي ببعض الأدلّة التي لا
تستعصي مبادئها على الفهم، للوصول إلى المقصود.
فنقول: يُجمع الأطباء وعلماء الأبدان، وحسب التجارب، على أنّ جميع أعضاء الجسم، من
أمّ الدماغ التي هي مركز الإدراكات ومحلّ ظهور قوى النفس، وحتى آخر أجزائه الصلبة،
تبدأ من سن الخامسة والثلاثين، أو الثلاثين فما فوق، بالانحدار والاقتراب من الضعف
والانحلال. ولكن في هذه الفترة نفسها، أي من سنّ الثلاثين أو الأربعين فما فوق،
تزداد القوى الروحيّة والإدراكات العقلية كمالاً ورقيّاً وسداداً.
*ليست قوى جسمانيّة
ويتّضح من هذا أنّ القوى العقلية ليست جسمانيّة، إذ لو كانت جسمانيّة لانحدرت، مثل
سائر قوى الجسم، نحو الضعف والوهن. كما لا يمكن القول إنّ القوى العقلية تزداد
ضعفاً بكثرة إعمال القوّة الفكريّة وحصول التجربة، إذ إنّ القوى الجسمانيّة ينتابها
التعب والانحلال، لا القوّة والكمال، نتيجة كثرة العمل وبذل الجهد.
فكلما كانت القوى أقرب إلى عالم الجسم والجسماني، كلّما كانت أسرع إلى الضعف
والكلال، وكلّما كانت أبعد كانت أبطأ في الإصابة بالضعف. أمّا القوى التي تنتمي إلى
عالم التجرّد والملكوت فتقوى وتزداد شدّة عندما يزداد عمر الإنسان. وهذا دليل على
أنّ النفس ليست جسماً ولا هي قوة جسمانيّة.
فالنفس مجرّدة وليست من سنخ الأجسام والجسمانيّات، والمجرّدات منزَّهة عن الفساد.
إذ إنّ ذلك من لوازم الأجسام. ومن هنا، يُستنتج أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن
وبمفارقتها له، بل تبقى في عالم آخر، ولا تفنى. وهذا هو المعاد الروحيّ للنفوس
والأرواح قبل يوم القيامة إلى أن يشاء الله لها أن تعود إلى الأبدان.
*بيان طريق السعادة والشقاء
ولا بدّ أن نعرف أنّ للنفوس صحّةً ومرضاً، وصلاحاً وفساداً، وسعادةً وشقاءً، وأنّ
إدراك طرقها ودقائق مصالحها ومفاسدها لا يتسنّى لأحد سوى ذات الله المقدّسة. لذلك
ففي النظام الأتمّ -الذي هو أحسن نظام، ومنظّمه حكيم على الإطلاق ومحيط بكلّ شيء-
لا يمكن أن يهمل بيان طرق السعادة والشقاء، وطرق علاج النفوس، إذ إنّ مثل هذا
الإهمال يقتضي النقص، وإنّ ذات الله المقدّسة منزّهة عن كلّ ذلك.
وقد حصلت من هذا نتيجتان واضحتان:
الأولى: هي أنّ الشريعة -وهي الوصفة الخاصّة بإصلاح الأمراض النفسيّة- لا
توجد إلّا عند ذات الحقّ المقدَّس.
والثانية: هي أنّ الله تعالى يعلنها -الشريعة- حتماً. ومعلوم أنّ مثل هذا
الهدف العظيم، وهذا العلم الكامل الدقيق الذي يربط بين المُلك والملكوت، لا يقع
لأحد إلّا عن طريق الوحي والإلهام، من جانب الحقّ تعالى. وبديهي، أنّ جميع أفراد
البشر ليسوا خليقين بمثل هذه الهبة، وليست لهم القابلية والقدرة على القيام بمثل
هذه المهمّة. ولكن يظهر خلال بضعة قرون من يكون جديراً بالاضطلاع بمثل هذا الواجب
وتحقيق مثل هذا الهدف العظيم، فيبعثه الحقّ تعالى ليبيّن للناس الطريق إلى السعادة
والطريق إلى الشقاء، وليعلّم الناس كيف يصلحون أنفسهم، وهذه هي النبوَّة العامّة.
*أكمل الشرائع الإلهيّة
بعد أن علِمنا ضرورة وجود شريعة إلهيّة لبني البشر، ولزوم رجوعنا إلى الشرائع
السائدة بين الناس، وهي على الأغلب الشرائع الإلهيّة الثلاث: اليهوديّة والمسيحيّة
والإسلام، نرى أنّ الشريعة الإسلامية هي أكمل الشرائع الأخرى في أبعادها الثلاثة،
التي هي أساس الشرائع ومدار التشريع:
الأول: العقائد الحقّة، والمعارف الإلهيّة، وتوصيف الحقّ وتنزيهه وكيفية ذلك
العلم بالملائكة وتوصيف الأنبياء عليهم السلام وتنزيههم...
والثاني: ما يعود إلى الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة وإصلاح النفس.
أمّا الثالث فهو: جانب الأعمال الفرديّة والاجتماعيّة
والسياسيّة والمدنيّة وغيره ذلك. بل إنّ كلّ ناظر منصف يدرك أنّ الإسلام أرقى من أن
يقارَن بدين آخر، وأنّ الحياة البشرية لم تشهد قانوناً ولا شريعة بهذا الإتقان في
جميع مراحل الحياتين الدنيوية والأخروية. وهذا بذاته خير دليل على أحقيّة الإسلام
وصِدقه.