الشيخ أحمد وهبي
يقول اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ
وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا
شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
﴾ (هود: 105-108). ويقول عزّ وجلّ:
﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ ..﴾
(هود: 118).
إنّ السعادة هي الغاية التي خلق اللَّه سبحانه لأجلها الإنسان وخلق له
كل شيء حوله من الموجودات، وإنّ السعادة هي الهدف الذي يتوجه إليه كل إنسان، ويبرر
كل تصرفاته وحركاته وسكناته على أساسه وبالسعي لأجله، ويسعى ويكد لجمع كل الأسباب
والوسائل التي يرى ويظن أنها تحقق له سعادته، ويستخدم في سبيل ذلك كل قواه المادية
والعقلية والمعنوية، وهو بذلك يرى أن ما يحققه من هذه الأشياء هو السعادة الحقيقية
والكاملة، لكنه في كل ما يتعلق به ويحققه ويدركه من الأمور والغايات المادية، يرى
أنه دائماً يحيط به التعب والجهد والعمل والسعي والكد، وتحول دونه المنغصات في كثير
من الأحيان، وهو دائماً يرى أنه مُعرّض للزوال والفناء والتغيُّر والإنقضاء، فيبقى
في خوف من ذلك، وإذا حصل ما خاف منه حزن، فهو بين خوف وحزن لا يزولان. هكذا هو،
يفتش عن شيء يحقق له سعادته فيتحول من شيء إلى آخر، ومن أمر إلى آخر من الأمور
المادية، والزخارف الدنيوية، وكلما حصل على شيء وجد أنه يشترك مع سابقه في ما كان
يخيفه ويحزنه، وهو اكتنافه بالزوال وإحاطته بالمشقَّات، فلا يفارقه الخوف والحزن.
فيبقى يفتش عن هدفه وغايته التي يُسميها السعادة، ولكنه لا يريد سعادة فانية، قليلة،
ناقصة، تحيط بها الآلام والمشقات والأحزان.
* السعادة غاية الإنسان
إن الإنسان يفتش عن السعادة القُصوى الدائمة، والكاملة واللامحدودة. لذلك نجد
الإنسان الذي يخيّر بين حياة أطول ولو اكتنفها بعض الألم، مقابل حياة أقل مع بعض
اللذّة يفضّل الحياة الأطول، كالذي يخيَّر بين قطع يده ليحيى مدة طويلة من العمر
وبين أن يعطى مسكِّناً يذهب الألم ولكنه يموت بعد مدَّةٍ قصيرة، فإننا نجد أنه
سيختار قطع يده التي يوجد فيها مرض عضال، ويختار تحمُّل بعض الألم وفقدان عضو من
أعضائه. وكذلك الحال فيمن يخيَّر بين عملٍ متعب مع أجر أكبر، وعملٍ مريح مع أجر
زهيد، فإنه يختار الأول لأن أجره يكفيه ويستمر معه أكثر ويدوم له حتى يأتي الأجر
التالي. وهذا ما يُعبَّر عنه بالتخيير بين الفناء والبقاء.
* حقيقة السعادة
اللَّه في القرآن الكريم العظيم، والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وآله الكرام
طرحوا هذه المسألة وبينوا الحق فيها، حيث رأوا أن السعادة الحقيقية هي في ما يبقى،
أي في الحياة الدائمة والباقية التي لا تنتهي. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله:
"السعيد من اختار باقيةً يدوم نعيمها، على فانية لا ينفذ عذابها...". وعن
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "أسعد الناس من ترك لذَّة فانية
للذَّةٍ باقية". وعنه عليه السلام: "كفى بالمرء سعادة أن يعزِف عمَّا يفنى،
ويتولَّه بما يبقى". واللَّه عزّ وجلّ يقول في القرآن الكريم:
﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
(طه: 73). وقال عزّ وجلّ:
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
(القصص: 60). ويقول سبحانه:
﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
(الأعلى: 17). ويقول عزّ وجلّ:
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ...﴾
(النحل: 96). ويقول سبحانه:
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا
﴾ (الكهف: 46). ويقول عزّ وجلّ:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ
﴾ (الرحمن: 26 - 27).
* سعادة الدنيا وهم
إذن يحدد القرآن وأهل البيت عليهم السلام الشيء الذي يبقى باللَّه تعالى والآخرة،
والأعمال الصالحات التي تكون لوجه اللَّه عزّ وجلّ وفي سبيله وتقرباً إليه. وأن
الدنيا مهما طال زمانها وعمرها فهي زائلة وفانية ولن تحقّق آمال الإنسان التي هي
أوسع من الدنيا، فهو يأمل بالبقاء الدائم والسعادة التي لا زوال لها ولا شقاء فيها
ولا تعب ولا نصب ولا نقص ولا ألم ولا خوف ولا حزن، وهذا ما لا يوجد في الدنيا. فما
يحققه الإنسان في الدنيا من سعادة فهي سعادة موهومة خادعة، لأنها غير دائمة وظاهرية
إن لم يكن لها ارتباط باللَّه وبالآخرة، لأن الإنسان مهما أحس بالفرح والراحة
والهناء، إلا أنه هنا مرتبط بظروف آنية يزول إذا زالت ويتغير إذا تغيرت، وهو مع
التفاته إلى زوال هذا الفرح يحس بالخوف من فقدانه وهذا يسلب سعادته وراحته. فهو فرح
مشوب بالحزن، وسعادة مشوبة بالشقاء والألم، وهو حقيقة لا يسمى سعادة.
روي عن الإمام
علي عليه السلام في هذا المجال؛ "أسعد الناس بالدنيا التارك لها، وأسعد الناس
بالآخرة العامل لها". وعنه عليه السلام: "أعظم الناس سعادةً أكثرهم زهادة في
الدنيا وملذّاتها". وعلى هذا الأساس يكون العمل للآخرة التي تبقى مهما قاسى
الإنسان من مشقات في سبيلها هو الذي يحقق السعادة للإنسان، وهذا الأمر يتوقف على
إصلاح النفس وتهذيبها باعتبار أن النفس وما تحمله من ملكات وصفات تبقى معها وتنتقل
إلى الآخرة، ولا تفنى بفناء الجسد وصيرورته تراباً. فعن الإمام علي عليه السلام: "من
أجهد نفسه في صلاحها سعد، ومن أهمل نفسه في لذاتها شقي وبَعُد". لأن في ترك اصلاح
النفس ضرر على الإنسان في دنياه وآخرته، لذلك من أراد السعادة في الدنيا والآخرة،
وأراد أن يعيش الطمأنينة، والاستقرار النفسي والروحي، فعليه أن يبتعد عن كل ما يؤدي
به إلى الضرر الكبير والعظيم والخالد.
* أسعد الناس في الدنيا
يقول الإمام علي عليه السلام: "إن أسعد الناس في الدنيا من عَدَل عمّا يعرف ضره،
وإن أشقاهم من اتبع هواه". لأن من اتبع هواه، وأحب ملذّات الدنيا، والدنيا
ناقصة محدودة لن ترضي نفس الإنسان، نجده مهما جمع من المال فهو يرغب فيما عند غيره
ويحسده، ويتنازع معه، فالدنيا دار التنازع، فإن لم ينازعه أحد ستنازعه الأسباب
والوسائل والمعوقات. لذلك من رغب عن الدنيا، ورغب في اللَّه سبحانه وتعالى وفي
الآخرة، تصفو نفسه وتطمئن ويعيش السعادة حتى لو قدَّم كل ما لديه من المال والحياة،
كما نجد في المؤمنين المجاهدين، وفي أئمة الحق عليهم السلام. فتبرأ نفسه من الحسد
والحنق على أخيه الإنسان، وهذا ما نجده في بيان ما هي السعادة عن أمير المؤمنين
عليه السلام: "خلو الصَّدر من الغل والحسد من سعادة العبد"... لأن هذا الصدر عرف
الحق، وعرف حقيقة الدنيا، وحقيقة السعادة، وحقيقة هذا الوجود الذي هو اللَّه تعالى،
فاطمأنت نفسه بهذه المعرفة، ورغبت بهذا الحق وسعت إليه، وعزفت عن كل ما هو فان
ومحدود، وزهد في الدنيا، فلم يبق لديه ما يحسد عليه، ومن يحنق منه، لأنه لم يعد يرى
إلا اللَّه ووجه اللَّه الذي لا يزول. هذه هي الحقيقة والحق، وعن علي عليه السلام:
"في لزوم الحق تكون السعادة" أي في معرفة الحق والتمسك به، وعدم الانفصال
عنه، لأنّ الحق هو الذي يبقى، واللَّه حق، والآخرة حق، والموت حق، وزوال الدنيا حق،
والعرض على اللَّه حق، فمن عرف ذلك وعمل له كان سعيداً، أما من لم يعرفه ولم يعمل
له فهو الشقي. فالعبرة بالخاتمة لا بالبداية، فهل سأنال بعد كل التعب وفي نهايته
أجراً سيبقى ويدوم؟ وهل سأحيأ بعد الألم وفي آخره مدةً طويلة أم لا؟
* وفي آخر الكلام
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "عند العرض على اللَّه تتحقق السعادة من
الشقاء". وعنه عليه السلام: "إن حقيقة السعادة أن يُختَمُ للمرء عملهُ
بالسعادة، وإن حقيقة الشقاوة إن يُختَم للمرء عمله بالشقاء". واللَّه عزّ وجلّ
يقول:
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ
ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾
(الرعد: 17). فما يسعد الناس ويبقى ويمكث هو الحق، وما يشقيهم هو الباطل
الذي سيبطل ويمحق، ولن نجد الحق عند غير اللَّه وأنبيائه وأوصيائه صلوات اللَّه
عليهم
﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾.