د. بلال اللقيس
تُميِّز جملة عوامل نوعيّة عمليّة بناء النخب وسياقات
إنتاجها في مجتمع المقاومة، عن غيره من المجتمعات. فإذا كان لمساهمة العوامل
التقليديّة، أو لنقل المتعارفة، دورٌ بارزٌ في مختلف الساحات الاجتماعيّة
والحركيّة، فإنها مع نموذج المقاومة وبيئته تحظى بأبعادٍ استثنائيّة وقيمة خاصّة.
أمّا تحدّيات العولمة، التي تصيب الهويّات الثقافيّة، وتفرز أدوات معرفة يشقُّ
تمييزها عن مصادر المعرفة، إلّا أنّ أبرز وأخطر ما أنتجته أنّها حوّلت كلّ ساحات
الفعل الاجتماعيّ إلى ميادين صراع، وتحدٍّ وتماس مباشر، بعد أن اقتصرت على الميدان
العسكريّ، وجبهات القتال يوماً ما. ومع ذلك فإنّ حالة المقاومة ومَن وُفّق للسير في
هديها تكاد تنفرد بمزيّة استجابتها العالية للتحدّي واستفادتها خير استفادة من
خصائص العولمة وكيفياتها، وتجنّب آفاتها إلى حدّ معقول.
* مزايا النخب في مجتمع المقاومة
وإذا كان الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، فإنّه في حالة المقاومة -كحركة استنهاض-
يضاف الحديث عن مزايا وقيم خاصّة مترشّحة عن "الهويّة الحركيّة" للمقاومة ومفاعيلها
في بناء الوعي العام، والإرشاد إلى القيم القياديّة، والرساليّة، ورفع معدّل
المنسوب العام الذي تترشّح عنه النخب وتتولّد.
أ. دور العائلة "قِيم استثنائيّة"
اليوم، وبعد ثلاثة أجيال ونيّف، نتحدث عن "أهل" و"عائلة"، شركاء المقاومة في
نهضتها، وفي آلام السعي معها منذ الرصاصات الأولى. بالنسبة إليهم، إنّ أعظم ما يمكن
أن يورّثوه هو استقامة أبنائهم على إنجازات هذه النهضة لتكمل العمل وتتمّ التحدّي،
تحدّي الاستواء على السوق بعد أن أخرجت شطأها واستغلظت بمؤازرتهم. فأبناؤهم اليوم
يُشرَّبون روحها وقيمها كالتضحية والعطاء بلا حدود وحبّ الشهادة في سبيل الله،
وخدمة الناس، كما "المبادرة وحبّ التحدّي" لصناعة التاريخ بدل انتظاره أو التوجّس
منه. فيسيرون وفق سنن الله تعالى:
﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
(الرعد: 11)، و﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69)، و﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ
يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُم...﴾
(الأنفال: 59)، و"الخلق كلهم عيال الله فأحبّهم
إلى الله أنفعهم لعياله"(1). فلم تكن الحال نفسها قبل عقود حين استنكر بعض
الأجداد هذا الفهم أو تقبّلوه على مضض وربّما مارسوا خلافه يوماً ما.
أمّا "الأمّ" التي نتحدّث عنها اليوم، فإنّها تلك المجاهدة التي تأخذ بولدها
لتعلّمه القرآن الكريم ونهج البلاغة، وكيفيّات النهوض، الذي عايشت هي لحظاته، مع
تحقّق أولى تباشير الوعد بالنصر، ما يُطمئن قلبها للوعود الآتية وفرص تحقّقها.
هذا بعض ممّا تضفيه "العائلة" في المجتمع المقاوم من قيم قياديّة استثنائيّة قلّ
نظيرها في عالم اليوم، وامتدادته الليبراليّة، ما ينعكس عمليات بناء وتنشئة وترقّي
تلقائيّة في حنايا هذا المجتمع ومفاصله.
ب. مجتمع انتصر على العولمة
إنّ صدمة العولمة بأعلى مراحلها اليوم، التي تسير لتهديد الهويّات، ما فتئت مجتمعات
الدول النامية تتصدّى لها، مخافة الاحتواء أو السقوط الداخلي، وتقف حائرة للتمييز
بين غثّها وثمينها، فيقيم بعضها جدراناً ظاناً أنّها ستحميه أو هارباً إلى الأمام
بدعوى المجاراة. لكنّ مجتمع المقاومة نجح، أيّما نجاح، بتقليل الضرر، وزيادة
الفوائد المرجوّة من هذه العولمة.
فهيّأت العولمة فرصة تاريخيّة لثقافةٍ خصِّبت على قرون متتالية متحيّنة لحظة إيصال
رسالتها إلى الكلّ. فقوّة المخزون وحيوية المكنون شرطان متوافران لاقتحام الساحة
بجرأة وشجاعة وإقدام.
ج. خطاب المقاومة
ونقصد به كلّ ما يصدر عن النموذج المقاوم، من قول أو فعل، وينعكس على وعي الناس.
فيبدو، أنه العامل الأهمّ والعنصر الأبرز في تحضير الأرضيّات وتهيئة البيئة لإنتاج
النخب والطاقات الواعدة. والمقاومة بما هي فعلٌ جهاديٌّ، إيمانيٌّ، سياسيٌّ
واستنهاضيٌّ يبتغي النماذجيّة في النظرية والتطبيق، يصبح الحديث فيها وعنها حديثاً
عن النموذج القيميّ الذي يستلهمه كلّ من [يتبيّأ] ببيئتها وينتسب إليها.
1. تصدير النموذج: فنفاذ خطابها يلتقي بلحظة
تاريخيّة استثنائيّة ساهمت هي في بلوغها. لحظة اقتراب عالمنا من الإقرار بفشل نموذج
المادّية المعدّل
-الديموقراطيّة الليبراليّة- وفرص تعميمه على أعقاب سقوط تنظيرات المادّية
التاريخيّة وتجربتها (تقرير لمؤسسة بروكنغز عام 2016م) لتفسح المجال أمام أطروحة
تنهض بعد غياب أو تغييب.
2. الوعيّ الحضوريّ المقارن: بين ما "كنّا"
وما "غدونا". وبالتالي، كيف سيكون الحال إذا التزمنا الجادّة واستقمنا على المنهج.
فبين النكسة عام 1967م والانتصار عام 2006م، انتقل مجتمع المقاومة بقوّة الوعي
الجهاديّ من التهميش إلى الحضور، ومن الانقطاع إلى الاتّصال، ومن الانفعال إلى
الفعل، ومن التأثّر ولوم الدهر إلى التأثير وصناعته.
3. فعل الوفاء والالتزام: فالفرد معها يعيش
معنى التضحية والإيثار مع ما يراه، ويتفاعل معه من صنوف وأنواع التضحيات والبرّ، مع
الشهيد الزميل، والقائد الشهيد، والأستاذ الشهيد، والأب الشهيد، والمفكّر الشهيد،
والعالم الشهيد، فيرى نفسه في موج "الإيثار"، وكذا الشوق والوفاء، فمسيرته ما وعدت
أمراً وأخلفت، بوجه عدوّ أو نحو أخٍ وصديق، وما تعهّدت ونقضت، فغدت بذاتها مدرسةً
للصدق والوفاء.
4. نحن قادرون: أمّا حجيّة "نحن قادرون"
والقدرة على التغيير، فهي حجّية المقاومة على كلّ ما حولها، ومن حولها. وإحدى أوثق
عرى ثقة المجتمعات بها، إذ هي ذاتها انطلقت من تحت الركام لتنتقل بأطوار متسارعة،
فأصبح معها أيُّ أمل للإصلاح والترّقي واقعاً، بعون الله.
5. الرحمة حتّى مع الأعداء: ولا يقتصر الأمر
على ذلك، فخطاب الرحمة الحاكم على شأن المسيرة كلّها تعايشه الجماهير في سلوك
مقاومتهم، حتّى مع أعدائها. فانتقلت آي القرآن من مفاهيم ومعانٍ يتصوّرها إلى
تجلّيات ومصاديق يعيشها. فالله تعالى كتب على نفسه الرحمة
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ﴾ (البقرة: 219) من ناحية، و﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ (الأعراف: 199) من ناحية أخرى.
6. بين قادة ثلاثة: وهوذا الشاب في بيئة هذه المقاومة يتقلّب في بناء
هويّته الحركيّة بين نماذج قادة ثلاثة، فمن "لا" الشيخ راغب المدويّة بقوّة
الإرادة، إلى "نعم" الروح المستبصرة، والحبّ الهادر، يخترق الجدر والقلوب مع السيّد
عباس، إلى الحاج عماد الإبداع، والمثابرة وروح التحدّي.
7. مفتاح الهويّة: وطالما أنّ المصطلحات بذاتها مفتاح الهويّة، فقد مدّت
بيئتها في تجديد الهويّة إن لم نبالغ القول، في بنائها كهويّة مستقلّة في زمن
التبعيّات، فطال ذلك مختلف البنى المعرفيّة، ووصل إلى المصطلحات والشعارات،
فاجترحتها من معين الإسلام العظيم، ودونما قطيعة حضاريّة مع أيّ نموذج مدّ المسيرة
الإنسانيّة بخير. فـ"هيهات منّا الذلّة" و"كرامتنا من الله الشهادة" و"الصدق منجاة"
و"الغالب بالشّر مغلوب"... و"الغرض يعمي البصيرة" و"الدين حبّ"...
8. بناء الوعي: أمّا خطاب القيادة، فبامتياز هو خطاب بناء الوعي
بمُرتكزه "السؤال"، و"الثقة". فوعي حقيقة السؤال، وإدراكه قيمة استثنائيّة لهذه
المدرسة في زمن يغرق بفائض أو سيل إجابات. زمن، هُدِّد فيه السؤال فاستبدِلت حرية
الإرادة بحريّة التعبير، فازداد المقلَّد من العلم، واضمحلّ المنتج. فحرّكت القيادة
السؤال الذي يُمكّن الأجيال من إدراك الحاجة وتقدير محلّ الوقوف ثمّ استجلاب
المستقبل لتفنيد الدور فيه... السؤال الذي يقوّم معرفة وينتج العلم.
والثقة بالنفس، والاعتماد عليها لهدف سام هما عين الاتكال على الله والإيمان
بالهويّة الدينيّة، وقدرتها على إحداث التغيير، فيصبح حال شبابها:
﴿خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ (مريم: 12)،
﴿فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ
مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ﴾ (الأعراف: 2)،
﴿لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ
تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ (المائدة: 68).
9. ركنا الحوزة والجامعة: وتتقوّم عمليّات صناعة الوعي وانعكاسه على
بيئتها بما يعايشونه من نظارة ركنَي الحوزة الدينيّة والجامعة لتعرّف بذلك طبيعة
انتمائها الحضاريّ الخاصّ.
ومن الناحية العمليّة، فهي، أي حالة المقاومة، فعلٌ متعدّد الأبعاد كما المجالات
العمليّة الطوعيّة، ما يُتيح للفرد أن يُنمّي شتّى أبعاد الشخصيّة، ويجعل من
ميادينها ومجالاتها مساحات بناء فريدة نادرة.
ختاماً، بين أسباب التربية والتنشئة الداخليّة المتأتية من العائلة ومثيلاتها،
وبين طبيعة العولمة والفرص المتولّدة عنها، وتلك المنبثقة من خطاب المقاومة
ونموذجها الإسلاميّ الإيمانيّ الخاص، تتهيّأ الظروف، وتبنى المقدّمات التي ما تفتأ
تولّد من معينها موجاً لا متناهياً من الكوادر الرساليّة، والنخب العاملة،
المتماهية مع مجتمعها وتطلّعاته بعون الله وقدرته.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16، ص345.