استطاعت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران أن تضع نفسها في
خانة الدول المتقدّمة على صعيد الاكتشاف العلميّ وسرعة وتيرة الابتكار. ومهما شوّه
بعض الباحثين صورة إيران بسبب تحيّزهم السياسيّ وافتقادهم الموضوعيّة، إلّا أنّ
إيران أثبتت أنّ ثورتها ليست قائمة على معادلة لعبة الأمم، بل إنّها تشكّل مدخلاً
لاستعادة المبادرة وتعزيز الصّمود والممانعة.
*القائد يضمن استمراريّة الثورة
وأكثر من ذلك، إنّ الثّورة الإسلاميّة فجّرت العقدة الحضاريّة بروحانيّتها
السياسيّة المتدفّقة. فإيران تتمسّك بوجود قائدها الذي يستند إلى سلطة الشرعيّة
السياسيّة كقائد للثورة بقوة القانون والدستور، وإلى سلطة العلم بوصفه الوليّ
الفقيه المحقّق لشروط الفقاهة والاجتهاد والاستقامة والعدالة والمعرفة بقضايا عصره،
وهي ترجع بكلّ مكوّناتها السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والثقافيّة والعسكريّة
إلى صمّام أمان يضمن لها استمراريّتها، ويجعلها رائدة خطّ الممانعة والمقاومة.
في هذا الإطار يقدّم إدريس هاني المتخصّص في الفلسفة والفكر الإسلامي كتاباً يحمل
عنوان: الاجتهاد المــُمانع - السّياسة والثّقافة والمجتمع في فكر الإمام
الخامنئيّ. وهذا الكتاب جاء كورقة مطوّرة كانت في الأصل مشاركة في أعمال المؤتمر
الدّولي في بيروت تحت عنوان: "التجديد والاجتهاد عند الإمام الخامنئيّ: قراءة في
المشروع النهضويّ الإسلاميّ المعاصر". وهو صادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر
الإسلاميّ ضمن سلسة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلاميّ، وعدد صفحاته 262
صفحة من الحجم المتوسط.
*رؤية القائد الإصلاحيّة التجديديّة
في الكتاب محوران رئيسيان، الأوّل تحت عنوان: "ماذا تعني "ثورة دينيّة"؟" والثّاني
تحت عنوان: "خطاب الممانعة السياسيّة ومشكلة الغزو الثقافيّ في فكر الإمام
الخامنئيّ".
تبرز أهميّة الكتاب من جهة تناوله للأبعاد الفكريّة للإمام الخامنئيّ، وبيان
مكوّنات رؤيته الإصلاحيّة التجديديّة في الدّين والسياسة، ورفضه الهيمنة الغربيّة
على شعوب المنطقة.
أ- المحور الأوّل: الثورة الإسلامية
يتناول الكاتب في هذا المحور السّياق والخطاب الذي أطّر أحداث الثورة الإسلاميّة في
إيران، وموقع السيّد القائد ضمن هذه التّجربة، وما تثيره هذه التّجربة من إشكاليّات
على مستوى المفاهيم والأفكار والمواقف. وهذا ما استدعى أن يفرد في البحث عددا ًمن
العناوين الّتي تصبّ في خانة التّعريف بالثّورة الدينيّة؛ ليبني من خلالها نسقاً
متكاملاً يبدأه بالسّؤال حول كيفيّة دراسة شخصيّة القائد، ودور المنهج في قراءة
شخصية القائد، وخصوصيّة الخطاب الثوريّ.
يلفت الكاتب إلى حسّ التجديد الفقهيّ لدى السيّد الخامنئيّ، فشخصيّته تمتاز بالقدرة
على التّشخيص واستنباط الأحكام وتبيّن معضلات الفكر الإسلاميّ. ومن ثمّ يبيّن إدريس
هاني أهميّة دراسة النّموذج المعرفيّ الّذي يشكّل مرجعيّة في الخطاب. وبعد ذلك،
تأتي الثّورة كنموذج إرشاديّ؛ فهي تعدّ مفتاحاً في فَهم شخصيّة القائد ومواقفه.
وهنا يدور الكاتب في فلك السّيد الخامنئيّ كثائر مثبتاً موقع الإمام الخامنئيّ في
فكر الإمام الخمينيّ، ولا يفوته دور السيّد الخامنئيّ في إنقاذ الثّورة بعد رحيل
الإمام الخمينيّ، ويثبّت بعد ذلك مسائل تتعلّق بنفس الثورة وخصوصيّاتها، ويعرّج في
نهاية المطاف على قضيّة ولاية الفقيه.
أمّا نظريّة العدالة فيقدّمها السيّد الخامنئيّ بأنّها تقوم على أساس الاعتقاد
والعمل، وهي تعدّ ركناً من أركان ولاية الفقيه، ولا يتعلّق العدل فقط بالحياة
الاجتماعيّة، بل هو مفهوم شامل للحياة الفرديّة أيضاً.
ب- المحور الثاني: في فكر الإمام الخامنئيّ
في المحور الثاني من الكتاب يتحدّث الكاتب عن قضية الممانعة ومشكلة الغزو الثقافيّ
في فكر السيّد الخامنئيّ، مركّزاً على عيّنة من الموضوعات ذات الصلة تتعلّق بقضايا
التربية والمرأة والفنّ.
وفي هذا القسم، يعالج الكاتب القضايا الأساس الّتي تساهم في إبراز فكر السيّد
الخامنئيّ، فهذا القائد ينتمي إلى ثورة رسّخت مفاهيم جديدة جعلت من تجربتها رائدة
في سائر المناحي السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة.
فمن أدبيّات الثورة مفهوم الاستكبار والاستضعاف، وشعار "لا شرقيّة ولا غربيّة"،
و"العودة إلى الذات"؛ ممّا ساهم في تكريس حالة الممانعة والمقاومة واستقلاليّة
القرار. والانتقال من حالة الثورة إلى الممانعة يمنح الثورة سنداً يحافظ على
جذوتها؛ ممّا جعل السيّد القائد أمام استحقاق التّخطيط وصبّ الجهد في ميادين
متعدّدة.
أمّا شروط الممانعة فترتكز على القيم التي قامت عليها الثّورة بالعودة إلى الذّات
والسّيادة ومعنى الشهادة، هذا مضافاً إلى التعبئة الفكريّة والروحيّة، وتعزيز
الشعور بالتفوّق الرمزيّ، والمناعة النفسيّة، وهذا ما شهده السيّد الخامنئيّ، لا بل
ومارسه بكامل مسيرته مع تحمّله لمسؤوليات كثيرة، وهو يدفع الشعب ويحرّضه على كسر
الاحتكار العلميّ والتكنولوجيّ، ويوجّه الشّباب إلى الابتكار والإبداع.
أمّا محوريّة الممانعة في الصراع ضد الجبهة الغربيّة، فهي القضيّة الفلسطينيّة التي
لم تغب عن خطابات السيّد الخامنئيّ بوصفها قضيّة عادلة، ويرقى بها إلى مستوى
التكليف الإلهيّ والإسلاميّ.
*الإرهاب مشكلة من الغرب
ومقابل الممانعة يقف تحدٍّ آخر وهو الإرهاب... وفي هذا المجال يعتبر السيّد
الخامنئيّ أنّ مشاكل الإرهاب نابعة من سياسات الغرب في المنطقة. وهو يربط بين
الإرهاب والمشروع الأمريكي بحيث يشكّل التيّار التكفيريّ أحد أذرعه. وكذلك الأمر
بالنسبة إلى الحرب الطائفيّة التي يفهم السيّد الخامنئيّ خطورتها، ويحدّد أدواتها
ويجابهها بخطاب الوحدة والتضامن في مناسبات عدّة، أهمها: يوم الغدير ومولد الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن الغزو الثقافيّ، يتحدّث السيّد القائد بأنّ موقفه تجاهه ناتج من جهة كون
الثقافة الغربيّة هي ثقافة فساد وإفساد، وهو ينتقدها من جهة قيميّة على مستوى قيَم
الإنسان والعدالة الاجتماعيّة وقيم التحضّر والسلام.
*تأمين الساحة من الغزو الثقافيّ
وفي مجال تأمين الساحة من الغزو الثقافي يستعرض الكاتب أهمّ الأساليب التي يعتمدها
الغزو الثقافيّ والتي تمسّ الأمن التربويّ ونظام الأسرة والذوق الفنيّ والجماليّ.
وفي هذا الإطار يركز السيد الخامنئيّ على الآتي:
1- في الأمن التربويّ وقضايا التعليم:
أ- العلم عامل أساس يجعل من الأشخاص العاديين يملكون سلطاناً على العالم.
ب- ضرورة تحويل الجامعة إلى مركز السّياسة، واهتمام الطلاب بالأوضاع السّياسيّة
والفهم السياسي.
ج- حثّ الجامعيين على عشق البحث العلمي، والتمتع بحسّ الجديّة والمثابرة.
د- أسلمة العلوم الإنسانيّة، ممّا يطور الفكر الإسلاميّ ومنهجه.
هـ- ضرورة تجديد الحوزات العلميّة وإصلاحها.
2- في الأمن الاجتماعيّ وقضايا المرأة والأسرة:
أ- نظرته الشموليّة إلى المرأة في مختلف مراحلها وأوضاعها.
ب- مساواة المرأة مع الرجل، مع مراعاة الاختلاف بين الجنسين.
ج- إيمانه بدور المرأة في الدّولة.
د- تحريض المرأة على التّعلم، والتّنافس في التعليم، وتنمية مهاراتها الفنية
وقدراتها العقلية.
هـ- وجوب حماية الأسرة وتقسيم العمل بين المرأة والرجل.
و- إنّ حقوق الرجل على المرأة لا تعني تسلّط الذكورة على الأنوثة.
ز- الحجاب يناسب عفة المرأة ويصونها.
ح- المرأة أفضل وسيلة للغزو الثقافي إذا ما استغلت.
ط- المرأة ينصهر فيها الجمال والجلال.
3- في الأمن الثقافيّ وقضية الفنّ:
أ- الفنّ الدينيّ لا يعني الرداءة والتحجر.
ب- يكفي للفنّ أن يتبنى قضايا قيمية كبيرة.
ج- عدم انفصال الفنّ عن الشعب وأحاسيسه.
د- سمو الفنّ يكون بحمله خصائص الروح الإنسانيّة.
*خلاصة
لقد استطاع إدريس هاني أن يقدّم بحثاً مطوّلاً دمج فيه بين الأسس التي قامت عليها
الجمهورية الإسلاميّة في إيران، وبين وجود القيادة التي جهدت في مجال النهوض
والإصلاح والتنمية وهذا ما أثمر تحرّراً لإيران من هيمنة الغرب.
وما تميّز به هذا الكتاب كون كاتبه من المغرب العربيّ، وغير منحاز، وهذا ما يعطي
للكتاب طابعاً من الموضوعيّة، ولا يخفى على القارئ انشداد المؤلّف لشخص السيّد
الخامنئيّ، وتأثّره بسيرته وحماسته في طرح أفكاره فكأنّه يعيش الممانعة بكلّ
حذافيرها.
وممّا يلاحظه القارئ للكتاب تقديم المؤلّف معطيات تتعلّق بالبيئة الفكريّة
والاجتماعيّة والثقافيّة للسيّد الخامنئيّ، فهو يستعرض أحداثاً تاريخيّة تخدم
الفكرة المبحوثة، وفي كلّ مبحث يبدأ بأفكار عامّة تتعلّق بالموضوع ، فلا يغفل عن
الربط الدائم بأفكار الإمام الخمينيّ ثم إبداء رأي السيّد الخامنئيّ فيأتي بشواهد
من كلامه وهذا ما يظهر جليّاً في المحور الثاني من الكتاب.
ولم يركّز الكاتب فقط على المنحى الإسلاميّ للموضوعات، فهو يذهب إلى مفكّرين
غربيّين يأتي بطرحهم وينقده.
تميّزت لغة الكاتب بالسّهولة والسّلاسة وإن كان الكتاب لا يخلو من بعض الخلل
اللغوي، ولكن يشهد للكاتب أنه حتّى عندما يستخدم المصطلحات يشرحها بشكل مختصر بحيث
يكمل القارئ معه الفكرة مستسيغاً عرضها.