الشيخ كميل شحرور
لقد كان محمّد ابن الحنفيّة من الذين أشاروا على الإمام
الحسين عليه السلام أن لا يستجيب لأهل العراق. فلمّا رآه قد تهيَّأ للخروج أخذ
بزمام ناقته وهو يبكي، وقال له: ألم تعدني بالنظر فيما سألتك؟ فما حداك على الخروج
عاجلاً؟ فردّ عليه السلام قائلاً: لقد جاءني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بعدما فارقتك وقال لي: لقد شاء الله أن يراك قتيلاً. فاسترجع ابن الحنفيّة وقال:
إذا كان الأمر كما تقول فما معنى لحملك النساء وأنت تخرج لهذه الغاية؟ فقال عليه
السلام: "لقد شاء الله أن يراهنّ سبايا"(1).
إنّ هذه الكلمات القصيرة اختصرت الدور العظيم للعقيلة زينب عليها السلام في ثورة
الحسين عليه السلام.
*شاء الله أن يراهنّ سبايا
فكما شاء الله أن يراني قتيلاً لتعود الأمّة إلى رشدها بعدما أصابها الانحراف
والضلال والخروج عن وصيّة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد وصول الأمّة إلى
درجة القسوة التي لا تنفع معها لغة الوعظ والخطابات، كان لا بدّ من لغة أخرى تكسر
الحجب التي أحاطت بالقلوب، وهي لغة الدم المسال على أرض كربلاء.
(شاء الله أن يراهنّ سبايا)، استكمالاً لهذا الدور، كان لا بدّ من وجود النساء
والأطفال وعلى رأسهنّ العقيلة زينب عليها السلام من نفس رحم تلك المشيئة التي توقّف
عليها الإسلام بقتل الحسين عليه السلام. كانت المشيئة أن يصطحب الحسين عليه السلام
معه النساء والأطفال ليتوقف على وجودهنّ نجاح الثورة.
*وجود العقيلة غيَّر المعادلة
وكان كرهُ يزيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حداه
على حمل النساء والأطفال سبايا إلى الشام حتّى يفرغ حقده الدفين المورث من أبيه
معاوية ويسلِّي فؤاده برؤية سبايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكبّلين
مُساقين من بلد إلى بلد داخلين عليه بهذه الصورة.
ولكنّ وجود العقيلة زينب عليها السلام في هذا الموكب غيَّر المعادلات التي وضعها
يزيد (لعنه الله).
لقد حملت زينب عليها السلام معها من أرض كربلاء دم الحسين وملأت الدنيا به. لقد
حوَّلت السبْي والدموع وأنّات اليتامى وآهات الثكالى إلى سياط تجلد بها يزيد بن
معاوية، ففي كل قرية ومدينة كانت زينب عليها السلام تقف خطيبة توضح للناس فعل
الظالمين وجرأتهم على الله ورسوله.
*دور زينب في المدينة
بعد عودة النساء والأطفال إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان على
زينب عليها السلام أن تستكمل الدور المناط بها لتحوّل المدينة إلى عين باكية على
الحسين عليه السلام.
كان على العقيلة عليها السلام أن تبيّن للناس حجم الجريمة وتقصير الأمّة، وكان
عليها أن تبيّن من خلال إقامة المآتم والمجالس وبكاء الباكين الدائم دون انقطاع
شنيع ما ارتكبه يزيد بحقّ رسول الله وأهل بيت الوحي والهدى.
ومن خلال إلهاب العاطفة في قلوب الناس كان عليها أن تستثمر تلك الحرقة في استنهاض
الناس لرفض الظلم، ليس في زمن يزيد فحسب، بل عبر كرور الأيام ومرّ الزمان.
أرادت زينب عليها السلام أن توجّه تلك الدمعة الصارخة في سبيل استنهاض القلوب
المقصّرة عن نصرة سيدنا عليه السلام.
وقد منع الظالمون جلاوزة يزيد بنات الرسالة من البكاء طيلة المسير إلى الشام حتّى
قال الإمام زين العابدين عليه السلام : "إن دمعت من أحدنا عين قُرع رأسه بالرمح"(2).
*عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
هذا المنع وتلك المظلوميّة وعظيم المصاب دفعت العقيلة إلى التوجّه إلى قبر المصطفى
صلى الله عليه وآله وسلم كأوّل مكان تبثّ فيه الشكوى.
ورد في كتب التاريخ أنّ السيدة زينب عليها السلام لما وصلت إلى المدينة توجّهت نحو
مسجد جدّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعها جماعة من نساء بني هاشم وأخذت
بعضادتي باب المسجد ونادت: "يا جدّاه إنّي ناعية لك أخي الحسين"، وهي مع ذلك
لا تجفّ لها عبرة ولا تفتر عن البكاء والنحيب (3).\
ثم انطلق بشر بن حذلم في أزقّة المدينة ينعى الحسين عليه السلام بأمر من الإمام زين
العابدين عليه السلام، فضجّت المدينة ضجةً واحدة بالبكاء والعويل ولبست النسوة
السواد وخرج الناس من البيوت والدور يلطمون الرؤوس على فقد سيّد الشهداء عليه
السلام.
أمَّا العقيلة عليها السلام فقد أقامت مجالس العزاء والنياحة في الديار الهاشمية
وهي تخبر الناس والمعزّين عمّا جرى على أخيها وعائلتها من الظلم والجريمة.
*زينب عليها السلام تثأر للإمام الحسين عليه السلام
يروي صاحب أخبار الزينبيّات عن مصعب بن عبد الله قال: كانت زينب بنت علي وهي
بالمدينة تؤلّب الناس على القيام بأخذ ثأر الحسين عليه السلام وخلع يزيد، فبلغ ذلك
عمرو بن سعيد فكتب إلى يزيد يعلمه بالخبر فكتب إليه أن فرّق بينها وبينهم فأمر أن
ينادى عليها بالخروج من المدينة والإقامة حيث تشاء فقالت عليها السلام : "قد علم
الله ما صار إلينا، قُتل خَيِّرنا وانسقنا كما تساق الأنعام وحملنا على الأقتاب
فوالله ما خرجنا وإن أهرقت دماؤنا"(4).
تؤكّد لنا هذه الرواية عزم العقيلة الذي لا يلين وقوتها التي لا تضعف مع كل بكائها
وحزنها وما تمثّل بيوت بني هاشم الخالية من أهلها من ذكرى ألم عارم بفقد الأحبّة
وغيابهم، إلّا أنّ ذلك لم يقعدها عن ممارسة الدور الرساليّ الذي تعتبره عليها
السلام استكمالاً للنهضة الحسينية، ولذلك هي تستفيد من حالة البكاء وتدعو صراحة إلى
الانقلاب على يزيد، وتتحدّى الطاغية بأنّها لن تخرج حتّى لو أهرقت الدماء وقتلت في
المدينة المنوّرة.
*دموع النساء أخافت الظالمين
فلو نظرت إلى المدينة في تلك الأيام لرأيت أمّ البنين ترسم قبوراً أربعة وتبكي
أبطالها في ناحية، والرباب لا تستظلّ سقفاً وهي باكية تحت الشمس الحارقة حتّى فارقت
الحياة.
وفاطمة العليلة على ما في بعض المرويات فجعت بخبر الشهادة وهي التي كانت تنتظر عودة
أبيها وإخوتها.
وهكذا تستمرّ تلك الدمعة هادرة حتّى يخاف الظالمون من دموع النساء وزينب، رغم عدد
جيوشهم فقد خافوا من صوت الحقّ الصارخ في المدينة، ولذلك يأتي الأمر من يزيد (لعنه
الله) بأن ينفي زينب عليها السلام. وهي بعدما رفضت ذلك كلّمتها زينب بنت عقيل: "يا
بنت عمّاه قد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض لنتبوّأ منها حيث نشاء، فطيبي نفساً،
وقرّي عيناً، وسيجزي الله الظالمين، أتريدين بعد هذا هواناً؟ ارحلي إلى بلد
آمن"(5).
وبالفعل أُخرجت العقيلة من مدينة جدّها منفيَّة لتكمل حزنها وألمها. وفي رواية أنها
توجّهت إلى مصر. ولكنّ أشهر الآراء عندنا أنها نُفيَت إلى دمشق - الشام... ودفنت
هناك في 15 رجب في سنة 62 للهجرة على قول، أي بعد سنة واحدة من واقعة الطفّ أو سنة
63 للهجرة أو 64 للهجرة، على اختلاف الأقوال، والثاني أشهر.
والسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث للنشور.
1-
من وحي الثورة الحسينية، هاشم معروف الحسني، ص47 - 53.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص154.
3- م.ن، ص198.
4- قاموس الرجال، الشيخ محمد تقي التستري، ج11، ص41.
5- رجال تركوا بصمات على قسمات التاريخ، السيد لطيف القزويني، ص178.