د. محسن صالح
عندما نتحدث عن الحياة، نقصد حركة الإنسان في الوجود، أي الإنسان عندما يكون نبضَ الحياة، ويملأ فضاءاتها الفارغة بحياته وأفكاره الإلهيّة وتطبيقاتها العمليّة الخيّرة. فماذا نصنّف هذه الأعمال التي يقوم بها بجاذبية عالية، ولكن أصلها الفراغ ومنتجة لفراغ أشد؟
الفراغ، نقيض الحركة في الوجود، فهو اللاوجود، يُطلق (بالمعنى الإنساني) على عدم وجود تصوّر، أو تصوّرات إدراكيّة، تمكّن العقل من الحركة والتفكير. لذا، فإنّ مقولة الفراغ هي نقيضة الوجود بحسب طاقة العقل والحسّ الإنسانيّين من العمل.
والفراغ أو الخلاء، بالمعنى الفلسفي، لا يقدّم حقيقة، والبعض وصفه بالعمه (التحيُّر والتردُّد). بهذا المعنى يصبح الفراغ مناقضاً للحق والخير، لأنّ الوجود خير، والخالق تعالى أوجد الموجودات لكي "يُعرف" لأنّه الخير الأسمى، وكل ما يوجِده الحقّ تعالى هو خيرٌ وحقّ.
*في العمل سموّ الإنسان
والاجتماع الإنساني هو خير. والعمل، في هذا السياق، هو نقيض الفراغ من حيث إن الإنسان يجد فيه، أو يفترض أن يجد فيه، ما يجسد ما اكتسبه من صور ومعقولات وتمكُّن وقوة في خدمة الذات كفكرة وديمومة الغاية الإلهيّة. وكلّما كان العمل والوظيفة منسجمتين مع الفكرة العبادية، كلما تعالى سموّ الإنسان وتدنّت نسبة الفراغ في عالم الموجودات، وبخاصّة الإنسان.
وكما أن المجتمع له وظيفة كليّة لمجموع الأفراد وبهم يصبح مجتمعاً، كذلك فإنّ للأفراد وظائف يتكاملون بها في الوجود الاجتماعي، كي لا يصبحوا عالة على المجتمع.
والمجتمعات على نوعين:
الأول: مجتمع له وظيفة وغاية يعمل على أن يتكاملا في الوجود لما فيه رضى الخالق تعالى. وهذا النوع يملأ فراغ العقل الغائي والوظيفي.
الثاني: مجتمع تُغلَّب الوظيفة على الغاية فيه، فيكون وجوده لذاته بمعزل عن غاياته، لأن وظيفته مؤقتة بحسب المكان الدنيوي فقط.
*الفراغ المعنوي والوجود المادي
يُهيمن على الاجتماع الإنساني المعاصر قوى السيطرة الماديّة الصناعيّة الاستهلاكيّة التي تُشَيّئ الإنسان (تجعل الإنسان شيئاً كسائر الأشياء). تعتمد هذه القوى على تجميع الطاقات لإبداع كلّ ما يمكن لاستثمار واستغلال الطاقات العقليّة والجسديّة لزيادة الربح المالي وتكديسه، بمعزل عن المآسي المنتشرة في هذا العالم، من فقر وتشرّد وحروب وظلم، لتترك مليارا جائع في هذا العالم المكتظّ بالثروات المكدّسة في البنوك.
هذه القوى المقتدرة تسخّر كل طاقاتها التكنولوجيّة والعلميّة والسلعيّة لإبقاء كل الشعوب، وخاصة شعوب ما يسمى العالم الثالث، دول وشعوب الجنوب، لتبقى تحت هيمنتها. كثيرة هي الأساليب المستخدمة لإبقاء هذه الشعوب تحت هيمنتها، لا بل وتسخير الطاقات الموجودة لدى هذه الشعوب لخدمتها في زيادة أرباحها.
*الفراغ ظاهرة أفرزها مجتمع صناعي
إن اعتماد الآلة الحديثة أدى إلى الاستغناء عن كثير من العقول والطاقات البدنيّة العاملة، وحوَّل، أيضاً، قسماً كبيراً من الشباب إلى كُتل من العاطلين عن العمل. في مصر وحدها أكثر من عشرة ملايين عاطل عن العمل، وملايين في بلدان أفريقيا وآسيا وأميركا.
أدى هذا الأمر إلى بروز عدد من الظواهر الاجتماعية القاتلة: ارتفاع نسبة معدلات الجريمة، والانتحار والسرقة... إلخ. ربما يكون الفراغ من أهم الظواهر التي أفرزها المجتمع الصناعي الحديث. وبمعزل عن "حسنات" التكنولوجيا والتقدم الذي رافق هذا التطور الذي نشهده في العصر الحديث، إلّا أن المآسي التي أشرنا إلى بعضها قد يكون في قمّتها الفراغ المؤدّي إلى الفساد العقلي والجسدي. وهذا ما ينعكس سلباً على الغاية التي من أجلها خُلِقَ الإنسان!
*نموذج: ثورة الاتصالات
إنّ من نتائج التكنولوجيا الحديثة "ثورة الاتصالات" التي حوّلت العالم إلى قرية كونيّة صغيرة. هذا صحيح، ولكن!
كم عدد الذين يستخدمون الهاتف الخلوي نسبةً إلى الذين يحتاجون إلى استخدامه حقيقةً؟ كم عدد الّذين يستخدمون الإنترنت نسبةً إلى الذين يحتاجونه لقضايا علميّة بحثيّة ضروريّة؟ كم عدد الذين يستخدمون الواتس أب نسبةً إلى الذين يحتاجون التواصل الدائم (باللحظة) مع أقرانهم أو أهلهم أو الأقارب أو لغاية العمل؟
كم تستهلك نسبة هذه الاستخدامات الكماليّة، بدون حاجة على الإطلاق، من الأموال والوقت والأعصاب والتلف العقلي، أو عدم استخدام العقل؟ وكم معدل الوقت الذي يستنزفه الفرد في هذه العمليات التواصلية؟ كم عدد الأجهزة المستخدمة المصنوعة لشركات عابرة للحدود؟ وما هي معدّلات أرباح هذه الشركات؟
عدد سكان لبنان لا يتجاوز أربعة ملايين، وربما عدد المقيمين لا يتجاوز ثلاثة ملايين. نسبة الذين يستخدمون هذه الأجهزة وما يطرأ عليها من تطويرات متسارعة يتجاوز الـ 60 بالمئة. وعندما قيل: إن الخلوي هو نفط لبنان لم يكن في ذلك مبالغة. إذاً، من يجني أرباح هذا النفط اللبناني؟ من المؤكّد ليس من اللبنانيين، هؤلاء الذين يقومون بصناعة الأجهزة وأصول البرامج!!
*عبوديّة من نوع آخر
لا شك أن الفراغ أو الخواء العقلي أو الزمني (الوقت) هو الذي أدّى إلى ملئه عبر هذه الوسيلة. ولا شك أيضاً أن البطالة جعلت هؤلاء يلجأون إلى ما يسمى بـ (تقطيع الوقت) بأن يستدينوا أموالاً لا يستطيعون سدادها، أو يسرقون، أو يحتالون، أو حتى يعملون بأبخس المردود ويدفعون أموالهم مقابل هذه السلعة!
إن الفراغ الذي أوجده نمط الحياة الحديثة أحال حياة الإنسان إلى كتل من الفراغات جوّفت أصل الوجود الإنساني الاجتماعي من وظيفته وغايته في الحياة. وفي هذا السياق، يتمّ تحويل الإنسان إلى موجود آخر، أو ربّما عبوديّة من نوع آخر!
فلا بد من مقاومة هذا الفراغ الخطير، الذي ربما يستند إليه من يريد شراً بهذا الجيل القادم من الأمة.